من الرياض، وفي قلب صحراء العرب، تشكلت ملامح مستقبل واعد لمملكة تصنع التاريخ برؤيتها، رؤية المملكة 2030، التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، بهدف تحويل المملكة العربية السعودية إلى قوة اقتصادية عالمية رائدة، غير معتمدة على النفط كمصدر دخل وحيد، بل بتنوع وازدهار إيراداتها في مجالات متعددة كالصناعات التحويلية، والاقتصاد القائم على الريادة والابتكار، وصناعة الترفيه، معتمدة على الإرادة السياسية نحو التغيير، وطاقات شبابها المبتكرين لرؤية إستراتيجية تصنع المستقبل.
لعقود طويلة، طالما كان النفط هو الشريان النابض للاقتصاد السعودي، إلا أن رؤية 2030 نظرت إلى أُفق أبعد، وأدركت أن الاعتماد المفرط على مصدر واحد للدخل هو خاصرة ضعيفة في جسد الاقتصاد الوطني، فتجعله عرضة لتقلبات الأسعار العالمية. وبذلك، انطلقت المملكة في رحلة تحول اقتصادي طموحة، استهدفت تنويع مصادر دخلها، وتقليل الاعتماد على النفط، وبناء اقتصاد مستدام ومتنوع، لتكون قصة نجاح ملهمة في عالم التحولات الاقتصادية.
في هذا السياق، برزت أهمية جذب الاستثمارات الأجنبية كركيزة أساسية في إستراتيجية التحول الاقتصادي للمملكة. فلم يكن الأمر مجرد جذب لرؤوس الأموال، بل هو عملية بناء شراكات إستراتيجية، وتبادل للخبرات، ونقل التكنولوجيا، بهدف دفع عجلة النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة، لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد السعودي، واستقطاب الخبرات العالمية. وهو ما بات جلياً اليوم بالبدء بتوطين صناعة السيارات وذلك بتصنيع أحد أشهر ماركات السيارات الكهربائية بالمملكة (لوسيد)، وبالإضافة للكثير من الصناعات العسكرية بواسطة الهيئة العامة للصناعات العسكرية.
هذه الأهداف، لم تتحقق صدفة، بل جاءت تبعاً لإجراءات وتدابير متسلسلة ومتناسقة، هدفت إلى تهيئة بيئة استثمارية جاذبة، وذللت من خلالها العقبات أمام المستثمرين الأجانب. فقد قامت المملكة بتنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية، بهدف تحرير الأسواق، وتسهيل الإجراءات، وتعزيز الشفافية، وحماية حقوق المستثمرين. وقد شملت هذه الإصلاحات قطاعات مثل الطاقة، والنقل، والاتصالات، والمالية، مما ساهم في جذب استثمارات نوعية.
بالنظر إلى المؤشرات العالمية، نجد أن المملكة قد تقدمت 102مركز عالمي في مؤشر بدء العمل التجاري خلال عام 2019، وهو انعكاس لتبسيط الإجراءات الحكومية وتقليل البيروقراطية، وتسهيل الحصول على التراخيص والتصاريح، الهادفة لتسريع وتيرة الاستثمارات، وتقليل التكاليف على المستثمرين. ولتحقيق ذلك فقد تم إطلاق منصات رقمية موحدة لتقديم الخدمات الحكومية، وتسهيل الوصول إليها، وتقليل الحاجة إلى المعاملات الورقية، مما حسّن كفاءة العمليات الحكومية وجعل المملكة تحتل مرتبة متقدمة في مؤشرات الخدمات الرقمية عالمياً للعام 2024، فحلت بالمرتبة الثانية عالمياً في مؤشر التحول الرقمي في الشركات، والثانية عالمياً في مؤشر تطوير وتطبيق التقنية، والأولى عالمياً في مؤشر عدد مستخدمي الإنترنت، والثانية عالمياً في مؤشر تمويل التطوّر التقني، والرابعة عالمياً في مؤشر دعم شراكات القطاع العام والخاص للتطوّر التقني.
وفي إطار تنفيذ برامج الرؤية، قامت المملكة بإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، كمدينة الملك عبدالله الاقتصادية، ونيوم، التي توفر وستوفر مزايا وحوافز خاصة للشركات العاملة فيها، كالإعفاءات الضريبية، وتسهيل إجراءات الاستيراد والتصدير، وتوفير بنية تحتية متطورة. حيث تهدف هذه المناطق بشكل خاص إلى جذب الاستثمارات في قطاعات محددة، مثل الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والخدمات اللوجستية، والسياحة، وخلق بيئة جاذبة للأعمال وهو استجابة وترجمة حقيقية لما جاء ضمن مبادرات البرنامج الوطني لتطوير الصناعة والخدمات اللوجستية (ندلب) أحد أضخم برامج رؤية المملكة 2030.
أما في مجال البنية التحتية، فقد استثمرت المملكة بكثافة في تطوير بنية تحتية متطورة، شملت البدء بتطوير مطار الملك خالد الدولي ليكون جزءاً من مطار الملك سلمان في الرياض، وتطوير لشبكات الطرق لتصبح السعودية الأولى عربياً في أوسع شبكة طرق سريعة، وبالمرتبة الرابعة على مستوى منظمة الدول العشرين بمؤشر جودة الطرق. هذا بالإضافة لشبكات الاتصالات المتقدمة، ووسائل النقل العام المتطورة التي كان أحدثها تشغيل أطول شبكة مترو بلا سائق على مستوى العالم المتمثلة بمترو الرياض بكلفة تجاوزت الـ 22 مليار دولار.
وبهدف ضمان توطين الاستثمارات واستقرارها، يقوم صندوق الاستثمارات العامة وهو الصندوق السيادي الأضخم على المستوى العربي، بدور حيوي وكبير في جذب الاستثمارات الأجنبية والمشاركة في مشاريعها الإستراتيجية. كما ويستثمر الصندوق أيضاً في قطاعات متنوعة، كالتكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والترفيه، والعقارات، والبنية التحتية، كجزء أصيل من سياسته في مواجهة التقلبات والمخاطر الاقتصادية ولتعزيز قدرته على الصمود.
فإلى جانب جذب الاستثمارات الأجنبية، فقد أولت المملكة اهتماماً كبيراً بتطوير التكنولوجيا والابتكار، باعتبارهما محركين رئيسيين للنمو الاقتصادي المستدام، فقد عملت المملكة على بناء نظام بيئي متكامل للابتكار، يشمل تطوير البنية التحتية الرقمية، وتشجيع البحث والتطوير، ودعم الشركات الناشئة بكوادر بشرية مؤهلة من خلال صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) بدعم وتأهيل وتمكين الشباب السعودي للعمل.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فقد أولت المملكة اهتماماً كبيراً في قطاع الترفيه والتسلية، وأصبح هذا القطاع أحد القطاعات الاقتصادية الواعدة، ويساهم بشكل كبير في تنويع مصادر الدخل الوطني، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص عمل ثابتة وموسمية جديدة للشباب السعودي. هذا بالإضافة لمساهمة هذا القطاع من الناحية الاجتماعية والثقافية، في تحسين جودة الحياة، وتوفير خيارات ترفيهية متنوعة للمواطنين والمقيمين، وفرصة لتعزيز التبادل الثقافي والانفتاح الاجتماعي، والتي كان من أبرزها موسم الرياض الذي يعد مثالاً حياً على نجاح المملكة في إنشاء قطاع ترفيهي نابض بالحياة. حيث يستقطب الموسم سنوياً ملايين الزوار من داخل المملكة وخارجها، محققاً أثراً اقتصادياً إيجابياً، ومساهماً في تعزيز الاقتصاد المحلي.
ختاماً، إن هذه الرؤية ليست مجرد خطة اقتصادية خطت على الورق، بل إنها سيمفونية تحول وطني شاملة، تقودها المملكة العربية السعودية نحو مستقبل واعد يرتكز على قوة الاستثمار، وعبقرية الابتكار، والاقتصاد المتنوع والمستدام. لتضمن بها المملكة مستقبلها بوضعها في مصاف القوى الاقتصادية الرائدة. وهو ما نأمله بأن يتم تصدير هذه التجربة السعودية الرائدة إلى دور الجوار.