يعد ما يحصل في المملكة العربية السعودية خلال السنوات القليلة الماضية تظاهرات غير مسبوقة في تاريخ المنطقة وربما العالم. هناك الكثير ما يمكن التحدث عنه للمراقب والمتابع الموضوعي للتحولات الكبرى للمملكة، لكني أريد أن أركز على ثلاثة مظاهر تبين التحولات التاريخية التي جرت بالمملكة، يأتي في مقدمتها التطور الهائل في تنظيم وخدمات مناسك الحج، فالإتيان بما يقارب ثلاثة ملايين إنسان ضمن بقعة جغرافية صغيرة يدخلون بكل يسر وسهولة وهم من خلفيات لغوية وقومية وثقافية مختلفة، ويؤدون مناسكهم بكل انسيابية وبكل تنظيم وبكل وضوح، محاطين برعاية جيش من المتطوعات والمتطوعين السعوديين الذين يساهمون في هذا المعلم الحضاري المهم، وكما ذكرت كل هذه الملايين في مكان محدود ولا تسجل حوادث إلا ما ندر، فهذا أمر يعمل على أنسنة الواقع الثقافي للمملكة وللمنطقة بشكل عام، هؤلاء الناس الذين يعمل أعداؤهم على تنميطهم على أنهم أناس فوضويون، لا يعرفون النظام ولا النظافة! يزور المملكة سنوياً الملايين وعلى مدى عام كامل، إنما قمة هذه الملايين في موسم الحج يرسمون هذه الأسطورة التي يحاول الآخرون إنزالها على منطقتنا.. على بلداننا لتقوم المملكة بنسف هذه الصورة النمطية السلبية عن المنطقة بعمل مخلص دؤوب، يتجاهله للأسف الكثير من بيننا وهو يجب أن يشار إليه بالبنان كظاهرة حضارية متقدمة، لا يقوم بها ولا يستطيع أن ينفذها سوى الدول الكبرى، بل حتى الدول الكبرى والمتقدمة تجتمع فيها عشرات الآلاف في ملعب رياضي وتحدث حوادث قتل ودهس وتدافع، وهذه الحوادث لا تحدث في مناسك الحج بتوفيق من الله ثم بسبب القوة الهائلة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية في تنظيم هذه المناسك.
التظاهرة الثانية التي أريد التحدث عنها هي فرض القانون بالمملكة العربية السعودية على الجميع دون استثناء، وهذا الفرض ساهم في جذب المستثمر لأنه يعرف أن القوانين تطبق عليه وعلى غيره، يأمن السائح والزائر في المملكة على حياته وماله بفضل أن هناك قانوناً يطبق على الجميع في هذا البلد المترامي الأطراف، يطبق القانون بحذافيره سواء في المدن الكبيرة أو في إحدى صحاريه القاحلة، هناك قوانين شاهدت بأم عيني كيف تنفذ حتى في شوارعها بنظافتها وترتيبها والالتزام بقواعد المرور كل ذلك يعود إلى فرض القوانين وتنفيذها على الجميع، وتعد من الخطوات الهائلة التي أخذت منحى آخر عززت به المملكة استقرارها وتعايشها السلمي والاجتماعي لأنها سنت قوانين على سبيل المثال تحمي بها كل الناس بغض النظر عن طوائفهم وأديانهم وهو الأمر الذي عزز الشعور الوطني لدى طوائف وشرائح وفئات المجتمع السعودي وشكل درعاً منيعاً لأي محاولات خارجية لاختراق الجبهة الداخلية، ووجدنا على سبيل المثال حصان طروادة الذي تحاول من خلاله إيران تصدير ثورتها عبر ادعاء الدفاع عن الشيعة، لكن أتت المملكة العربية السعودية بقوانين مساواة وعدالة وتجريم لخطاب الكراهية، الذي وضع جسراً مانعاً يحمي المملكة من أي محاولات اختراق لجبهتها الداخلية، هذه القوانين تجرم خطاب الكراهية والاعتداء اللفظي على أي فئات المجتمع وهذا تطور هائل جداً يحسب للمملكة ويعزز فكرة المواطنة فيها ويحمي المواطنين.
التظاهرة الثالثة أو التطور الثالث هي القدرة السعودية في دبلوماسيتها الخارجية التي تقوم على مبادئ القانون الدولي، فالمملكة العربية السعودية بدبلوماسيتها لم تتدخل في شؤون الآخرين ولكنها تساعد الآخرين متى ما استطاعت ذلك، ولم تتخلَّ عن القضية الفلسطينية رغم ما نالها من أذى وتضرر مصالحها بسبب مواقفها الداعمة لقضية فلسطين العادلة إلا أنها بقيت حتى اليوم تقول إنها لن تقيم سلاماً مع الكيان الإسرائيلي ما لم يكن هناك سلام مع الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطين يقرر الشعب الفلسطيني من خلالها مصيره، هذا الموقف التاريخي الثابت للمملكة يجعلها -وهذا قدرها- دولة محورية عربية إسلامية إقليمية لا أبالغ لو قلت عالمياً، وهي في سياستها الخارجية ومبادئها في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأمر الذي دفع دولتين كبيرتين (روسيا والولايات المتحدة الأميركية) أن يعقدا أول لقاءاتهما بعد انتخاب الرئيس ترامب على أرض المملكة من أجل إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا دليل واضح على مدى صدقية السياسة الخارجية للسعودية وقدرتها على أن تكون لاعباً أساسياً في السياسة الدولية.