مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الدور الدبلومــاسي المتنـامي للمملكة العربية السعودية في المنظمات الدولية

تعد المملكة العربية السعودية اليوم من أبرز الفاعلين في الساحة الدولية، بفضل سياستها الخارجية المتوازنة، وثقلها الاقتصادي، ورؤيتها الطموحة التي تكرس مكانتها العالمية. ويتجلى ذلك في نشاطها البارز لدى المنظمات الدولية، ولاسيما في الأمم المتحدة بنيويورك، التي تمثل الإطار الأهم لصياغة السياسات العالمية حول قضايا الأمن والسلم والتنمية وحقوق الإنسان. وقد جاء هذا الدور ليعكس التزام المملكة بمسؤولياتها الإقليمية والدولية، وسعيها إلى المشاركة الفاعلة في معالجة التحديات العالمية.
المملكة عضواً مؤسساً
منذ توقيعها على الميثاق عام 1945 كعضو مؤسس، حافظت المملكة على التزامها بمبادئ الأمم المتحدة، وفي مقدمتها احترام سيادة الدول وحل النزاعات بالطرق السلمية. وقد واصلت طوال العقود الماضية دعمها للمنظمة، سياسياً ومالياً، بما يعزز دورها في صون السلم والأمن الدوليين والمساهمة في التنمية بجميع أنحاء العالم.
إصلاح المنظمة وتطويرها
وفي السنوات الأخيرة، حرصت المملكة على الانخراط في مبادرات تطوير الأمم المتحدة، ودعمت توجهات إصلاح آلياتها، مثل مشاركتها الفاعلة في إعداد واعتماد ميثاق المستقبل الذي يهدف لتعزيز كفاءة المنظمة وقدرتها على مواجهة تحديات العصر. كما أكدت المملكة في هذا السياق التزامها الراسخ بالعمل متعدد الأطراف، وتأكيدها على ألا يتخلف أحد عن ركب التنمية والتقدم، ودعمها لجميع الجهود والمبادرات الرامية إلى إجراء الإصلاحات الضرورية بما في ذلك مجلس الأمن بما يكفل لمنظمة الأمم المتحدة الوفاء بالمسؤوليات المناطة بها، والقيام بدورها على النحو المنشود من أجل تحقيق الأمن والسلم الدوليين والتنمية المستدامة للجميع.
الأمن والسلم الدوليين والقضية الفلسطينية
أولت المملكة عبر تاريخها اهتماماً كبيراً بقضايا السلم والأمن الدوليين، انطلاقاً من سياستها الثابتة القائمة على احترام القانون الدولي. ففي السياق العربي، ظلت القضية الفلسطينية محوراً رئيساً في تحركات المملكة بالأمم المتحدة، حيث تدعو وتعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. كما حرصت المملكة على التأكيد في بياناتها أمام الجمعية العامة ومجلس الأمن على مبادرة السلام العربية، التي أطلقتها المملكة في عام 2002 ثم تبنتها القمة العربية في بيروت، بوصفها طرحاً شاملاً يحقق سلاماً عادلاً ودائماً في الشرق الأوسط على أساس حل الدولتين. وفي هذا السياق، تشارك المملكة حالياً في جهود تيسير عقد المؤتمر الدولي رفيع المستوى لحل الدولتين، المزمع عقده قريباً بمقر الأمم المتحدة في نيويورك بالتعاون مع الشركاء الدوليين، في إطار حرصها على تهيئة الظروف الملائمة لاستئناف مفاوضات السلام وتحقيق حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
مكافحة الإرهاب والتطرف
برز دور المملكة في مكافحة الإرهاب عبر إطلاقها شراكات ومبادرات مؤسسية داخل الأمم المتحدة، لعل أبرزها تأسيس مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (UNCCT) في نيويورك عام 2011، الذي كانت المملكة أكبر مساهم في إنشائه، وتواصل تقديم الدعم له ليكون ركيزة أساسية في بناء قدرات الدول الأعضاء وتطوير إستراتيجيات شاملة لمحاربة الإرهاب والتطرف. كما اضطلعت المملكة بدور رائد من خلال رئاستها للمجلس الاستشاري للمركز، وأسهمت في دعم تنفيذ إستراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب.
تمكين المرأة
أحرزت المملكة تقدماً ملحوظاً في تمكين المرأة، انعكس دولياً حين تولت مؤخراً رئاسة لجنة وضع المرأة بالأمم المتحدة (CSW). وجاء ترؤس المملكة للجنة تأكيداً على اهتمامها بالتعاون في إطار المجتمع الدولي في كل ما من شأنه تعزيز حقوق المرأة وتمكينها، كما يتماشى مع الإنجازات النوعية التي حققتها المملكة في هذا المجال، حيث حظيت المرأة السعودية باهتمام ورعاية القيادة الرشيدة ومنحتها سبل التمكين، فأصبحت شريكاً فاعلاً في رفعة الوطن ونمائه، وحققت نجاحات نوعية في العديد من المجالات. كما اختصت رؤية المملكة 2030 بأولويات ومستهدفات ركزت على مشاركة المرأة الكاملة على الصعد كافة.
التنمية المستدامة والمياه
وفي سياق التنمية المستدامة، أسهمت المملكة في إطلاق مبادرات دولية مهمة، من أبرزها المنظمة الدولية للمياه ومقرها الرياض، التي تهدف إلى تعزيز الأمن المائي العالمي وتشجيع الابتكار في إدارة الموارد. وقد أكدت المملكة، من خلال هذه المنظمة، أنها ستعمل على حشد الدعم الدولي للهدف المشترك المتمثل في تعزيز سلامة موارد المياه العالمية، مشددة على أن معالجة تحديات المياه تتطلب تكاتف المجتمع الدولي وتقاسم الموارد والمعرفة، باعتبارها مسؤولية جماعية لا تقع على عاتق دولة بعينها، بل تستدعي تعاون الجميع لضمان مستقبل مائي آمن ومستدام.
كما سجلت المملكة حضوراً قوياً باستضافتها مؤتمر الرياض COP16 في أكتوبر 2024، الذي يعد أكبر اجتماع على الإطلاق للأطراف الـ(197) في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD)، ولأول مرة يعقد في منطقة الشرق الأوسط، ويوافق عام 2024 الذكرى الثلاثين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، إحدى المعاهدات البيئية الثلاث الرئيسة المعروفة باسم اتفاقيات ريو، إلى جانب اتفاقيتي تغير المناخ والتنوع البيولوجي. وقد شهد المؤتمر الاتفاق على خطوات عملية لحماية النظم البيئية وتقليل الفقد في التنوع البيولوجي، مما رسخ دور المملكة كشريك دولي أساسي في السياسات البيئية.
مبادرات سعودية في تعزيز الصحة والبيئة
قدم الوفد الدائم للمملكة العربية السعودية العديد من القرارات التي تم اعتمادها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعكس حرصها على دعم مختلف المجالات بما فيها القضايا الصحية والبيئية تعزيزاً للعمل متعدد الأطراف، حيث اعتمدت الجمعية العامة مؤخراً يوم 24 نوفمبر يوماً عالمياً للتوائم الملتصقة بهدف رفع مستوى الوعي حول هذه الحالات الإنسانية ودعم التعاون الدولي لضمان تمتعهم بأفضل سبل الصحة والرفاه. كذلك اعتماد يوم 10 فبراير يوماً عالمياً للنمر العربي، لإذكاء الوعي بهذا النوع البري المهدد بالانقراض وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لصونه وصون الأنواع الأخرى، بما يضمن استدامة التنوع البيولوجي في موائلها الطبيعية على المدى الطويل.
جهود المملكة ضمن مجموعات الأصدقاء بالأمم المتحدة
يعمل وفد المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة بنشاط ضمن (مجموعات الأصدقاء)، وهي عبارة عن مجموعة من الدول تتبنى قضية من أجل تعزيز الزخم حولها داخل المنظمة الدولية. يترأس وفد المملكة عدد من مجموعات مثل (مجموعة أصدقاء جودة الحياة) التي تعنى بتكريس مفهوم جودة الحياة وتعزيزه ضمن السياسات الصحية والاجتماعية الدولية، إضافة إلى (مجموعة أصدقاء الشيخوخة والتنمية المستدامة) التي تركز على دعم حقوق كبار السن وتحسين سبل رفاههم. كذلك، يترأس وفد المملكة (مجموعة أصدقاء رئيس الجمعية العامة) التي تعمل على توفير الدعم اللازم لرئيس الجمعية العامة للقيام بواجباته والنهوض بمسؤولياته لبناء توافق دولي حول القضايا المختلفة، كما يترأس وفد المملكة (الرابطة الدولية للمندوبين الدائمين)، وهي منتدى للمندوبين الحاليين والسابقين يهدف لتعزيز التعاون من أجل تحقيق الأهداف السامية للأمم المتحدة. وإلى جانب قيادة عدد من مجموعات الأصدقاء، يعمل وفد المملكة بفعالية من خلال عضويته في العديد من المجموعات التي تهتم بقضايا دولية مختلفة. ويعكس هذا الانخراط حرص المملكة على المساهمة في صياغة المبادرات متعددة الأطراف التي تسهم في تحقيق التنمية المستدامة، وتدعم تطلعات رؤية المملكة 2030 في بناء مجتمع مزدهر يضمن حياة كريمة للجميع، بالتوازي مع دورها العالمي في الدفع نحو تحقيق الاستقرار والرفاه المشترك.
التعاون الرقمي ودور المملكة العالمي
وفي سياق التطورات العالمية المتسارعة في مجالات التقنية، حرصت المملكة على ترسيخ حضورها الدولي في الاقتصاد الرقمي، من خلال إطلاقها مع دول أخرى منظمة التعاون الرقمي ومقرها الرياض، التي حصلت مؤخراً على صفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتهدف هذه المنظمة إلى تحقيق الازدهار الرقمي للجميع عبر دعم الجهود لتعزيز التحول الرقمي وخدمة المصالح المشتركة للدول الأعضاء. وتسعى المملكة من خلال هذه الشراكة إلى تعزيز التعاون العالمي في مجالات الابتكار الرقمي، وتمكين الشباب والنساء من فرص الاقتصاد الرقمي، وبناء جسور تقنية تسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
المساعدات الإنسانية والتعاون مع الأمم المتحدة
تعد المملكة من أكبر المانحين للمساعدات الإنسانية على مستوى العالم، إذ تجاوزت مساهماتها مليارات الدولارات خلال العقد الأخير. ويعمل مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بالشراكة مع وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP)، ومنظمة الصحة العالمي (WHO)، واليونيسف، لتنفيذ آلاف المشاريع الإغاثية في عشرات الدول المتضررة من النزاعات والكوارث. ويعكس هذا الدور الإنساني سياسة المملكة القائمة على تقديم العون دون تمييز، ودعم الاستقرار الإقليمي والدولي.
دبلوماسية تترجم رؤية المملكة عالمياً
يتضح جلياً أن دبلوماسية المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ليست مجرد واجب بروتوكولي، بل هي خيار إستراتيجي جوهري لتحقيق سياسات المملكة ومراعاة الأولويات الوطنية وتطلعات رؤية المملكة 2030 في شقها الدولي، حيث يسعى الوفد الدائم للمملكة في نيويورك، وسائر بعثاتها حول العالم، إلى صياغة وتبني قرارات وسياسات دولية تسهم في استقرار المنطقة والعالم، وبناء شراكات تعزز التنمية المستدامة، وتأكيد حضور المملكة كطرف رئيس في جهود الأمن والسلم الدوليين. كما تؤمن المملكة أن مواجهة التحديات العالمية المعقدة، من تغير مناخي وأزمات إنسانية وصحية واقتصادية، يتطلب تضافر الجهود وتعزيز التعاون متعدد الأطراف. وهي إذ تبذل مساعيها لتعزيز جسور التواصل مع مختلف الشعوب والمنظمات، فإنها تؤكد التزامها بمبادئ التفاهم والحوار والاحترام المتبادل، بما يُسهم في إرساء دعائم الأمن والاستقرار وفتح آفاق رحبة للتنمية والازدهار في جميع أنحاء العالم. متطلعة إلى أنْ تُسهِمَ هذه الجهود في إيصال رسالتها وقيمها ومبادئها للعالم، في جو يسوده الاحترام والشراكة لبناء مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.

ذو صلة