يعيش العالم اليوم ضجة كبيرة حول الذكاء الاصطناعي، حيث تتسارع وتيرة تطويره وتطبيقاته بشكل غير مسبوق، فكل يوم يطالعنا تطبيق جديد أو منصة جديدة، أما التحديثات فهي دائمة، وما يكاد يظهر تحديث لمنصة حتى تفاجئنا منصة منافسة بتحديث أو مجموعة من التحديثات الجديدة، وربما شهدنا خلال الأيام الماضية، التوجه (الترند/ Trend) الذي غزا منصات التواصل الاجتماعي، بعدما أطلقت منصة (Open AI) عبر (Chat GPT)، خاصية تحويل الصور إلى صور كرتونية بنمط أستوديوهات قبلي (Ghibli Style).
وقد أدى هذا التطور إلى ظهور حماس واسع النطاق، ورغبة قوية في استخدام هذه التقنية الجديدة، مصحوبة في الكثير منها بنوع من الاستخدام غير المدروس لهذه التقنيات. ففي حين يحمل الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لتحسين حياتنا وتطوير مجتمعاتنا؛ في المقابل، قد يؤدي الاستخدام غير المدروس إلى عواقب سلبية، خصوصاً في مجال الكتابة والإبداع، ونقصد بالاستخدام غير المدروس، الإفراط في الاعتماد عليه، أو الاستخدام السطحي لقدرات وإمكانات هذه التقنية، أو استخدامه بشكل غير أخلاقي.
الذكاء الاصطناعي والذكاء الطبيعي.. نظرة مقارنة
عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي، لا بد من التمييز بينه وبين الذكاء الطبيعي، أو البشري. فالذكاء الطبيعي هو القدرة الذهنية التي يمتلكها الإنسان، والتي تشمل الوعي، والإدراك، والتفكير، والتعلم، والذاكرة، واللغة، وحل المشكلات. وهو نتاج تطور بيولوجي معقد استمر لملايين السنين. ومن المهم أن نعي إن الذكاء الإنساني عملية معقدة تختلط فيها الكثير من المعايير للوصول إلى الحالة التي عليها الإنسان، أو طبيعة الذكاء البشري.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو محاكاة لهذه القدرات الذهنية بواسطة الآلات والبرامج الحاسوبية. يتم تصميمه وتطويره بواسطة الإنسان، ويعتمد على خوارزميات ونماذج رياضية لتمكين الآلات من أداء مهام تتطلب عادةً ذكاءً بشرياً. وهنا من المهم فهم أن هذا الذكاء يعتمد على إجراء سلاسل من العمليات الرياضية، وأن النماذج المتطورة منه تقوم بتدريب نفسها على الأنماط التي تغذى بها.
الذكاء الاصطناعي
يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي إلى قدرة الآلات على محاكاة القدرات الذهنية البشرية، مثل التعلم والاستنتاج وحل المشكلات. وهو ما يتم تحقيقه من خلال تطوير أنظمة وبرامج قادرة على معالجة كميات كبيرة من البيانات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات بناءً على تلك الأنماط. ومن المهم الإشارة إلى أن محاولات العلماء في مجال الذكاء الاصطناعي تعود للعام 1956م، وهو تاريخ أول ورشة عمل في هذا المجال. ومنذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا تعددت أشكال وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وصولاً لما هو عليه الآن من سهولة الوصول إلى المستخدم.
التطور المتسارع -خلال السنوات الأخيرة- في هذا المجال، أدى إلى ظهور تطبيقات وأدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب حياتنا، بما في ذلك صناعة المحتوى الثقافي والأدبي والإعلامي، والتي يمكنها إنتاج أكثر من شكل، محتوى: نصي، سمعي، بصري.
وفيما يخص موضوع مقالتنا هذه التي نركز فيها على كتابة المحتوى، فقد ظهرت في الفترة الأخيرة العديد من المنصات والتطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في كتابة المحتوى، والتي تستخدم في أغراض متنوعة، وبخاصة من جانب الكتاب والصحفيين والمحررين، وكتاب المحتوى، ومن أشهر هذه المنصات، Chat GPT أو Gemini، وهما منصتان يمكن استخدامهما فيما ذكر سابقاً، كما أنه يمكن استخدامهما من خلال أي وسيط إلكتروني، سواء في حاسوب أو هاتف ذكي، أو جهاز لوحي.
كتابة المحتوى
شهدت السنوات الأخيرة تطوراً متسارعاً في تقنيات الذكاء الاصطناعي، عملاً واستخداماً، وبات لها دور متزايد في صناعة وإنتاج المحتوى الثقافي والأدبي والإعلامي وحتى الدراسات والأبحاث، حتى في المجال الأكاديمي. بداية من كتابة المقالات والتقارير إلى إنتاج الفيديوهات والأعمال الإبداعية.
هذا التحول فيما يطرحه من إشكاليات، يطرح إشكاليات فكرية وقانونية حول طبيعة الملكية الفكرية، وحدود الاستفادة من هذه التقنيات، وما إذا كانت تؤثر سلباً أو إيجاباً على جودة المحتوى والممارسات الصحفية والأدبية والثقافية والمعرفية عامة، ناهيك عن التشكيك في إمكانات الكتاب والمحررين الإبداعية والفنية.
الذكاء الاصطناعي.. سيف ذو حدين
من الواضح والثابت بالتجربة أن الذكاء الاصطناعي يقدم إمكانات هائلة للصحفيين والكتاب والمحررين. فهو قادر على أتمتة المهام الروتينية، مثل جمع البيانات وتلخيصها، وتحرير النصوص وتدقيقها لغوياً، وحتى كتابة مسودات أولية للمقالات والتقارير، أو إجراء عمليات عصف ذهني أو تحليل الأفكار والموضوعات. هذه الأدوات يمكن أن توفر الوقت والجهد، وتسمح للكتاب والمبدعين بالتركيز على الجوانب الأكثر إبداعاً في عملهم، مثل التحليل والتفسير وصياغة الأفكار الأصيلة.
فقد يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي إلى تراجع المهارات الأساسية للصحفيين والكتاب، مثل القدرة على البحث المعمق، والتحليل النقدي، والصياغة اللغوية المتقنة. فعندما يعتاد الكاتب على الاعتماد على الآلة -بشكل مطلق- في إنجاز هذه المهام؛ فإنه قد يفقد القدرة على أدائها بنفس الكفاءة عند الضرورة.
ومن ناحية أخرى، يثير استخدام الذكاء الاصطناعي مخاوف تتعلق بأصالة المحتوى وجودته وعلاقته بالكاتب أو المبدع. فالنصوص التي يتم إنتاجها بواسطة الآلة قد تفتقر إلى العمق والإحساس واللمسة الإنسانية التي تميز الكتابة الجيدة (الإبداعية). كما أنها قد تكون عرضة للأخطاء والتحيزات، خصوصاً إذا لم يتم تدريبها على بيانات متنوعة وموثوقة.
تأثير الذكاء الاصطناعي على المهارات البحثية
يعدُّ البحث من أهم المهارات والتكتيكات في عمل الصحفي والكاتب. وهو يتطلب مجموعة من المعارف والمعلومات حول تحديد المصادر والمراجع، وتقييم مصداقيتها، وجمع البيانات وتحليلها، وربطها بالسياق المناسب. بشكل عام، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في بعض جوانب هذه العملية، مثل البحث عن المعلومات عبر الإنترنت، وتلخيص الوثائق، وتحليل البيانات الكبيرة الحجم. لكن الاعتماد على هذه الأدوات قد يؤدي إلى تراجع قدرة الصحفي والكاتب على القيام بالبحث اليدوي، وتقييم مصادر المعلومات بشكل نقدي، وتطوير حسّه الخاص تجاه جودة المعلومة ومصداقيتها. كما أن الاعتماد المستمر، قد يقلل من فرص الاحتكاك المباشر مع المصادر، وهو أمر بالغ الأهمية في بناء الثقة وفهم وجهات النظر المختلفة.
تأثير الذكاء الاصطناعي على المهارات الكتابية
الكتابة هي وسيلة التعبير الأساسية للصحفي والكاتب، وهي تتطلب مهارات مثل الوضوح والدقة والأسلوب الجذاب، والقدرة على صياغة الأفكار بشكل منطقي ومقنع، والتكيف مع مختلف أنواع النصوص والجمهور المستهدف. كما إن لكل كاتب أسلوبه وصوته الخاص الذي يميزه عن غيره ويجعله معروفاً بين القراء والمتابعين.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في بعض جوانب هذه العملية، مثل التدقيق اللغوي والإملائي، واقتراح بدائل للكلمات والعبارات، وحتى كتابة مسودات أولية للنصوص. لكن الاعتماد المفرط على هذه الأدوات قد يؤدي إلى تراجع قدرة الصحفي والكاتب على التعبير عن أفكاره بأسلوبه الخاص، وتطوير حسّه اللغوي، والتكيف مع متطلبات الكتابة المختلفة. فالنصوص التي يتم إنتاجها بواسطة الآلة -بشكل عام وغير موجه- قد تكون خالية من الإبداع والابتكار واللمسة الإنسانية التي تميز الكتابة الجيدة.
الموازنة بين الفوائد والمخاطر
الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة لتطوير صناعة المحتوى، ولكنه يحمل أيضاً تهديدات جمة على المهارات الأساسية للصحفيين والكتاب. ولتجنب هذه التهديدات، يجب تبنّي نهج متوازن، يقوم على استخدام الذكاء الاصطناعي أداةً مساعدة، وليس بديلاً عن الإبداع البشري، من خلال تطوير الكتاب والصحافيين لمهاراتهم في استخدام هذه الأدوات، وفهم إمكاناتها وقيودها، وتوظيفها بشكل يخدم أهدافهم الإبداعية، دون المساس بجودة المحتوى وأصالته.
ونقترح هنا بعض النقاط والأفكار المهمة، في شكل توصيات مقسمة إلى:
أولاً: الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي في تعزيز إنتاج المحتوى:
أتمتة المهام الروتينية والمتكررة: من خلال تولي مهام مثل النسخ، والتحرير الأولي، وإنشاء ملخصات، وجدولة المنشورات، مما يوفر وقت المبدعين وجهدهم للتركيز على الجوانب الإبداعية والإستراتيجية.
توسيع نطاق الإنتاج وتنوعه: في إنشاء أنواع مختلفة من المحتوى بسرعة وكفاءة، مثل النصوص، والصور، ومقاطع الفيديو القصيرة، وحتى الموسيقى، مما يفتح آفاقاً جديدة للمبدعين والمسوقين.
تحليل البيانات واقتراح الأفكار: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الاتجاهات، واهتمامات الجمهور، وأداء المحتوى السابق، وتقديم رؤى واقتراحات للمبدعين لإنتاج محتوى أكثر جاذبية وملاءمة.
تخصيص المحتوى وتكييفه: يمكن من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي تكييف المحتوى ليناسب تفضيلات واحتياجات شرائح مختلفة من الجمهور، مما يزيد من تفاعلهم ورضاهم.
تسهيل الوصول إلى أدوات الإنتاج: يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تجعل عملية إنتاج المحتوى في متناول المزيد من الأشخاص الذين قد لا يمتلكون مهارات تقنية متقدمة.
ثانياً: الحفاظ على أصالة المحتوى وحماية حقوق الأفراد والمبدعين:
تطوير تقنيات للكشف عن المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي: يجب الاستثمار في تطوير أدوات قادرة على تحديد ما إذا كان المحتوى قد تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، وذلك لضمان الشفافية ومنع الانتحال.
وضع قوانين وتشريعات واضحة: يجب على الحكومات والهيئات التشريعية وضع قوانين تحدد حقوق الملكية الفكرية للمحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي، وتوضح مسؤوليات مستخدمي هذه التقنيات.
تحديد ملكية الحقوق الفكرية للمحتوى الناتج: هل الحقوق تعود للمستخدم الذي أدخل التعليمات؟ لمطور نموذج الذكاء الاصطناعي؟ أم يجب وضع نظام ملكية مشترك؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات قانونية واضحة.
ضمان الشفافية والإفصاح: يجب مطالبة المستخدمين بالإفصاح بوضوح عندما يتم إنشاء جزء كبير من المحتوى أو كله بواسطة الذكاء الاصطناعي، وبخاصة في المجالات التي تتطلب مصداقية عالية مثل الأخبار والصحة.
تطوير أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى: يجب على الصناعة تطوير مبادئ توجيهية وأخلاقيات تحدد الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في إنشاء المحتوى، وتمنع استخدامه في نشر معلومات مضللة أو محتوى ضار أو ينتهك حقوق الآخرين.
تشجيع الإبداع البشري والحفاظ على دوره المركزي: يجب التأكيد على أن الذكاء الاصطناعي هو أداة لدعم الإبداع البشري وليس بديلاً عنه. يجب أن يظل العنصر البشري هو المحرك الأساس للأفكار الأصيلة والرؤى الفريدة.
توفير آليات لحماية حقوق المؤلفين والمبدعين: يجب تعزيز آليات حماية حقوق الملكية الفكرية، وتسهيل عملية الإبلاغ عن الانتهاكات المحتملة للمحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي.
توعية المستخدمين والمبدعين بحقوقهم ومسؤولياتهم: يجب نشر الوعي حول كيفية عمل الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى، وحقوق الملكية الفكرية المتعلقة به، ومسؤوليات المستخدمين في تجنب الانتهاكات.