موضوع الذكاء الاصطناعي موضوع شائك ومعقد، هذا على الرغم من تدفق المعلومات حول الموضوع، ويمكن القول إن الإنسان صار يحاصر بكم هائل من المعلومات، وربما ذلك لارتباط الموضوع بالثورة الإلكترونية أو الثورة الرقمية. وما زال الموضوع حياً بل ويتجدد كل يوم أو كل ساعة بل كل لحظة، وهو يعد مخاضاً للعولمة، هذه العولمة التي تولد كل يوم جديد مثل الرياضات الإلكترونية وألعاب الفيديو والهندسة الوراثية، ولا نحتاج للقول إن قوى مثل الرأسمالية في مختلف أشكالها، وبخاصة الرأسمالية المتوحشة، تقف خلف هذه الإفرازات، لما في ذلك من أرباح هائلة بل وسيطرة على عقول البشر، وهذه الرأسمالية تمضي في سبيل تحقق مصالحها دون رأفة بهذه العقول؛ ذلك أن هذه الرأسمالية مثلها مثل منجزاتها الرقمية تفتقد إلى العاطفة والروح التي ميز بها الخالق الإنسان ومخلوقاته من الأحياء. وتسعى الرأسمالية المتوحشة لما أسماه بعض المفكرين بمفهوم ما بعد الإنسانية، وهو مفهوم ينطوي على قدر من حسن النية، إذ تسعى إلى توظيف الثورة الرقمية أو العلم لخير الإنسان ودعم الإنسان في حالة الحاجة، مثل المرض أو الإعاقة أو العجز عامة. وهكذا فإن سباقاً محموماً نشهده بين الشركات التي تعمل في مجال الذكاء الصناعي، ولا جدال أن هذه الشركات حققت إنجازات مشهودة في العديد من الأهداف التي سعت لها، وهذا واضح في الأرباح الهائلة التي جنتها هذه الشركات في مجالات مثل الرياضات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، لكن هذه النجاحات أثارت العديد من القضايا كالتهديد الكبير للخصوصية الثقافية وبخاصة في مجال الاعتقاد والأديان إلى جانب قضايا حقوق الملكية الفكرية.
ويعرف العديد من المشتغلين بالثورة الرقمية أو الفضاء الأسفيري؛ يعرفون جيداً ما في النصف الفارغ من الكوب، فعلى سبيل المثال تنطوي الألعاب الإلكترونية على مفاهيم وأفكار تخلق بدورها تحيزات ثقافية، وكذلك يحذر العلماء في مجال علم النفس مما قد تحدثه هذه الألعاب من أمراض وعلل نفسية على الأطفال والناشئة، فهذه الألعاب الرقمية على عكس الألعاب التقليدية مثل كرة القدم وشقيقاتها من الرياضات الشعبية، فالأولى تكرس الفردية وتجرى في الغرف المغلقة وليس الميادين الفسيحة، وهذا بدوره لا يشجع على الحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية، ليس هذا فحسب بل إن الألعاب الإلكترونية تنتج الكثير من الحوافز للعديد من السلوكيات السلبية، مثل العنف واللهث حول الربح والكسب السريع وغير ذلك.
على كل فإن أكثر ما يهمنا هو علاقة الذكاء الاصطناعي بالإبداع الأدبي والفني، ونقصد ذلك الإبداع الذي يقوم على الموهبة الفردية، وربما بل والعبقرية التي صنعت وما زالت تصنع إبداعاً هو غذاء للروح والوجدان، مثل إبداع شعراء المعلقات والمعري والبحتري وأحمد شوقي ونزار قباني ومحمود درويش ومحمد المهدي المجذوب والتجاني يوسف بشير، ومثل إبداع شكسبير وديكنز وبلزاك ونجيب محفوظ والطيب صالح... إلخ، وهذا هو السؤال، وهو في اعتقادنا التحدي الأكبر للذكاء الاصطناعي. والسؤال كذلك هل يمكن أن يبدع لنا الذكاء الاصطناعي لوحات تعيش على مر العصور مثل الموناليزا؟ أو موسيقى مثلما أبدع بتهوفن وموزارت وباخ؟ بل وغناء مثل غناء أم كلثوم وفيروز وطلال مداح وغيرهم؟
وسنحصر حديثنا عن الرواية لأنها مجال اهتمامنا ودراستنا، وعلى الرغم من شح الدراسات حول الرقمية والرواية، وكما هو متوقع فإن الرواية الجديدة أو الرواية الرقمية تنطلق من رواية الخيال العلمي، وهي بإيجاز الرواية التي لا تحدث في عالمنا الذي نعيش فيه وقد تحدث في كوكب ما مثل المريخ أو في عالم افتراضي، ومن أشهر الإنجازات هنا رواية (فرانكشتاين للروائية ماري شيلي) وقد صدرت عام 1818، ومن الروايات كذلك رواية (الحديقة الجوراسية) للروائي (مايكل كرابتون) وقد صدرت عام 1990، أما في العالم العربي فقد صدرت رواية (في حضرتهم) التي كتب عنها الناقد محمد حسانين في المجلة العربية (العدد 575) وهو يصفها بأنها أول رواية عربية فيسبوكية مشتركة، فقد كتبها كاتبان، هما: السودانية آن الصافي والمغربي عبدالواحد ستيتو، وقد تبادل الكاتبان نشر الرواية عبر صفحة فيسبوكية خاصة بالرواية، ويخلص الناقد للقول إن موضوع الرواية لم يخرج عن موضوعات الخيال العلمي، وهذه الرواية هي مجرد محاولة تتسم بالجرأة ولا تخرج عن كونها تجريباً. وفي تقديري أن هذه الرواية لا تبشر بمستقبل مشرق للرواية كجنس أدبي، وأعزز هذا الرأي بما كتبه الروائي السوداني أمير تاج السر فقد نشر مقالاً في المجلة العربية عدد (582) بعنوان (ذكاء اصطناعي) وهو يقول: (أنا لا أؤمن بروايات الذكاء الاصطناعي، وعندي يقين بمحدودية ما شحن من خيال ومفردات بحيث يهب مستخدمه أشكالاً نمطية من الإبداع)، وخلص تاج السر للقول: (لقد كتب البرنامج في الحقيقة قصة يمكن قراءتها ولكن أيضاً فيها متناقضات لن يفعلها الكاتب الإنسان). ونتفق مع الروائي تاج السر فيما ذهب إليه، لأن الرواية مثل أي إبداع آخر تحتاج إلى الموهبة والحس الإنساني، أي الروح التي تتفجر بالعاطفة الإنسانية. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصنع الخبر ولكن لا يصنع الرواية التي تحتاج للعاطفة، إذ لا شك أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في رفع جودة المحتوى، من خلال تحليل البيانات، وتقديم اقتراحات لغوية، وتنقيح النصوص بسرعة ودقة. كما يمكنه دعم الصحفيين والكتاب عبر تقنيات التلخيص والترجمة والتصحيح اللغوي. غير أن الاعتماد الكلي عليه يهدد بتسطيح الأفكار، وتحويل المحتوى إلى منتج نمطي يفتقر إلى الحس الإنساني والعمق الثقافي.