شهد التطور الإنساني عبر التاريخ قفزات نوعية في مختلف المجالات، وبفضل التقدم السريع الذي شهدته الإنسانية في العقود الأخيرة، طالت العديد من التطورات، وبخاصة المجال التكنولوجي والرقمي، ليقف بذلك الذكاء الاصطناعي في طليعة هذه التطورات. إذ بات يشكل ثورة جديدة في عالم التكنولوجيا، ففسح المجال أمام مختلف الميادين للتطور، وسهّل على البشرية القيام بعدة أعمال، مختصراً الجهد والوقت. وتُعدّ هذه التقنيات والتطبيقات مكوّناً أساسياً في عصرنا الحالي، نظراً لما حققته من مزايا، وما ساهمت به في عدة مجالات، خصوصاً وأنها تتطور ذاتياً.
هذا التطور أكدته برمجيات الذكاء الاصطناعي وبخاصة الخوارزميات، وهو الأمر الذي دفع المبرمجين والعلماء إلى التخوف من فقدان السيطرة على هذه التكنولوجيا في المستقبل، مما يجعلها سلاحاً ذا حدين، لما توفره من مزايا، وكذا لما قد تخفيه من مخاطر على الإنسانية ومستقبل الذات البشرية. في ظل هذه التطورات المتسارعة، أصبح السؤال الجوهري يدور حول مستقبل البشرية وهويتها الفكرية. وقد حظي هذا الموضوع باهتمام واسع في الآونة الأخيرة، حيث أصبح من أكثر المواضيع جذباً للدراسة والتحليل، كما احتل حيزاً مهماً في النقاشات عبر المواقع الإلكترونية، واللقاءات، والمؤتمرات، بل وتغلغل في أعماق الحياة اليومية للإنسان.
يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أهم التقنيات المتطورة والبرامج الحاسوبية التي تم تطويرها بهدف محاكاة الذكاء البشري، وقد ساهم في تسهيل الحياة على الإنسان في مختلف جوانبها، سواء كانت شخصية، عملية، ثقافية، سياسية، إبداعية، أو حتى عاطفية. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي ضرورة لا غنى عنها، لكن كما نعلم، فإن حتى أزهى الورود تخفي بين وريقاتها أشواكاً حادة. فعلى الرغم من كل ما قدمه هذا التطور التكنولوجي لخدمة الإنسانية، فإنه لا يخلو من جانب مظلم، إذ قد يؤدي إلى جعل الآلة بديلاً عن الإنسان.
وبالرغم من كون هذه التقنية نتاجاً للذكاء البشري، إلا أنها أصبحت تشكل تهديداً وتحدياً له، حيث إن التقدم الذي أحرزته الرقمنة قد يكون بداية لنهاية الذات البشرية وطمس هويتها الفكرية. فبدلاً من أن يُكمّل الذكاء الاصطناعي المهارات البشرية، قد يصبح المسيطر عليها، بل قد يلغيها تماماً، حيث بات قادراً على تعويض الإنسان في مختلف المجالات، بما في ذلك التسيير والتوجيه، وحتى ما هو حميمي وعاطفي. وقد دفع هذا الأمر البعض إلى مناقشة نهاية الإنسان وإمكانية تفوق الذكاء الاصطناعي عليه، خصوصاً وأن الإحصائيات تؤكد أنه كلما زاد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، تراجع مستوى الذكاء البشري.
كل هذه التحديات تفرض علينا التفكير في كيفية تحقيق التوازن بين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي، والحفاظ على الهوية الفكرية للإنسان، مما يثير تساؤلات فكرية، أخلاقية، وقانونية، يمكن صياغتها على النحو التالي: كيف يمكننا الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي دون المساس بأصالة الفكر والإبداع البشري؟ لمن تعود ملكية الإنتاج في ظل تدخل الآلة؟ وكيف يمكن لهذه البرامج أن تؤثر على المهارات الإبداعية للكتاب والمبدعين؟ ومن ثم، ما الطرق الممكنة لتقليص هذه التحديات التي تفرضها هذه التقنيات، بهدف صنع قبضة حكيمة تمسك بهذا السيف ذي الحدين، وتوجهه بحذر دون أن تقطع أو تكبّل؟
شهد العالم بأسره تقدماً هائلاً في مجال الذكاء الاصطناعي، مما أحدث تغييرات جذرية في حياة البشر، وعزز قدراتهم الإبداعية والإنتاجية، كما أسهم في تقديم العديد من الخدمات الشخصية والجماعية للمستخدمين. لقد سهّل القيام بعمليات ضخمة بفضل قدرته على معالجة وتحليل وإنتاج كميات هائلة من البيانات، وهو أمر كان غير ممكن في عصر ما قبل التقنية. كما ساهم في تحسين الصيغ وتقديم تصحيحات لإنتاجات الصحفيين والكتاب، بل وأصبح قادراً على إنتاج نصوص ومقالات ومحتويات وفقاً لمتطلبات المستخدم، حتى إنه بات يبدع نصوصاً أدبية ومقالات بعناوين جذابة ومحتويات غنية.
بالإضافة إلى ذلك، قدم الذكاء الاصطناعي مقترحات أسلوبية وأفكاراً تعزز جودة المهارات الإبداعية، وساعد الباحثين في الوصول إلى مراجع وبيانات دعمت الإنتاج الفكري والإبداعي للإنسان. إلا أن هذه المزايا لا تمنع من الإشارة إلى التحديات والتهديدات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، لا سيما فيما يتعلق بهوية الفكر البشري وأصالته. فبدلاً من أن يعتمد الإنسان على التقنية كمساعد له، أصبح في كثير من الأحيان يعتمد عليها بشكل كلي، مما أدى إلى خمول الذات البشرية، وإضعاف مهاراته البحثية والإبداعية والكتابية.
لقد أصبح مستخدمو هذه التقنيات، سواء كانوا كتاباً أو صحفيين، أكثر اعتماداً على الآلة بدلاً من تطوير قدراتهم الذاتية. كما أن استخدام هذه البرمجيات فرض إشكالية جديدة تتعلق بالملكية الفكرية، حيث صار من الصعب التمييز بين الإنتاج البشري والإنتاج الآلي، مما يعقد مسألة تحديد من يملك الحقوق الفكرية للإنتاج الذي تدخل الذكاء الاصطناعي في إنجازه. هل تعود الملكية للمستخدم، باعتباره من طلب الإنتاج ووضع معاييره؟ أم تعود للشركة المطورة؟ أم أنه لا يخضع للملكية أصلاً كونه ناتجاً عن عملية آلية؟
معظم الدول تعدّ الناتج الآلي غير مؤهل للحماية بحقوق الملكية، بينما ترى أخرى أن المستخدم هو المالك الشرعي لهذه الإنتاجات، لكونه الموجه الفعلي لها. ويبقى الجدل قائماً حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يقلص دور الصحفيين والكتاب، إذ أن كل تطور تقني يقابله تراجع في الإبداع الذاتي، مما يستدعي استخدام هذه التقنية بطريقة مسؤولة، دون المساس بالهوية الفكرية البشرية أو طمسها، ودون الوقوع في مشكلة تبعية الإنسان للآلة، بعد أن كان هو المتحكم بها.
ولا يمكن الحديث عن هذا المجال دون التطرق إلى المخاوف الأمنية، حيث بات استخدام الذكاء الاصطناعي يطرح تحديات أخلاقية، مثل الاحتيال والتلاعب بالبيانات. كما أن تطوره السريع يصعّب عملية التنظيم والتشريع، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية والمسؤولية القانونية والرقابة على الاستخدامات الخاطئة وهو أمر يستدعي مزيداً من الحماية القانونية والتشريعية.
ولا نغفل أيضاً التأثير الاقتصادي، إذ أن تطور الذكاء الاصطناعي يثير مخاوف بشأن فقدان الوظائف، وتقليص فرص العمل في العديد من المجالات، نتيجة استبدال الإنسان بالآلة. كما يمتد التأثير إلى الجانب الاجتماعي، حيث يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الحياة الاجتماعية، ويؤثر على طبيعة التفاعلات والعلاقات الإنسانية، سواء داخل الأسرة أو خارجها.
إن تداعيات هذا التطور التكنولوجي لا تعزز فقط من المخاطر السلبية التي تهدد البشرية، بل تجعل من الضروري التصدي لها قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، بحيث لا يصبح الإنسان ذا قيمة في عالم يمكن للآلة أن تحلّ فيه محله تماماً. لذا، من الضروري تبني نموذج تكاملي يجمع بين الذكاء الاصطناعي والمهارات البشرية، بحيث يُستثمر كأداة تعزز الإبداع البشري بدلاً من أن تكون بديلاً عنه. خصوصاً مع ما بات يعتقده الإنسان المستقبلي وهو الحياة الروبوتيكية التي ستعمر الأرض إلى جانب الإنسان.
كما أن مستقبل صناعة المحتوى في ظل الذكاء الاصطناعي يعتمد على كيفية إدارته واستخدامه بشكل مسؤول وواعٍ، بما يعزز جودة المحتوى، بدلاً من تركه دون ضوابط، مما قد يؤدي إلى تهميش الذات البشرية وطمس الأصالة الفكرية.
إن التحدي الأكبر اليوم هو إيجاد توازن بين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي، والحفاظ على الهوية الفكرية والإبداع الإنساني.