مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

محتوى الآلة.. بين تعزيز الإبداع وتهديد الملكية الفكرية

في السنوات الأخيرة، أحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في مجال إنتاج المحتوى، حيث أصبح أداة قوية تُمكّن المبدع من إنشاء مقالات وتقارير إخبارية، وصياغة نصوص أدبية تخيلية بسرعة فائقة، فضلاً عن تحليل كميات ضخمة من البيانات خلال لحظات. ولم يقتصر دوره على النصوص فقط، بل امتد ليشمل تحرير الفيديوهات، وإنتاج الصور، والفنون الرقمية بطرق مبتكرة. ومع هذا التقدم السريع، أثيرت عدة إشكاليات ترتبط أساساً بأصالة المحتوى المُنتَج عبر هذه التقنيات، ومدى تأثيرها على جودته، إلى جانب التحديات القانونية والأخلاقية المرتبطة بالملكية الفكرية وحقوق المبدعين.
يهدف الذكاء الاصطناعي إلى فهم طبيعة الذكاء البشري من خلال تطوير برامج حاسوبية قادرة على محاكاة سلوكه وأسلوبه بخصائص ذكية. وبذلك يصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على حل المشكلات، واتخاذ القرارات، ومعالجة المسائل المعقدة عبر عمليات استدلال مختلفة مبرمجة بشكل مسبق داخله. بمعنى آخر، فهو محاكاة للنشاط الفكري الإنساني، لكن من خلال تقنيات آلية وتكنولوجية قابلة للتطوير. وقد أصبح مؤخراً أداة أساسية يَعتمد عليها صانعو المحتوى الثقافي والفكري والإعلامي لتحسين جودة أعمالهم وتوسيع آفاقها. فبفضل الذكاء الاصطناعي، بات من السهل تقديم محتوى احترافي من خلال قدرته على توفير معلومات دقيقة استناداً إلى مصادر موثوقة وتحليل البيانات الضخمة والمعقدة في وقت قصير. كما يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح رؤى وأفكار جديدة بناءً على احتياجات الجمهور وتطلعاته. بالإضافة إلى ذلك، يتيح الذكاء الاصطناعي لصانعي المحتوى إمكانية التدقيق اللغوي باستخدام أدوات مثل Grammarly لتصحيح الأخطاء النحوية والإملائية، وتقديم بدائل لتحسين الصياغة وإعادة بناء الجمل بشكل أكثر سلاسة ووضوح، ما يوفر الوقت للتركيز على الجوانب الإستراتيجية الإبداعية. إضافة إلى إمكانية ترجمة المحتوى لعدة لغات من خلال Deeple و Google translate، وبالتالي ضمان انتشاره في مختلف أرجاء العالم.
على الرغم من فاعلية الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة المحتوى، إلا أن الاعتماد المفرط عليه قد يؤثر بشكل سلبي على المهارات البحثية والكتابية للصحفيين والكتاب. فقدرة الذكاء الاصطناعي على توليد نصوص جاهزة قد تضعف التفكير النقدي وتحد من قدرة الكاتب على تطوير أفكاره وإنتاج محتوى أصيل.
النصوص المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي قد تكون مقبولة، لكنها غالباً ما تكون متشابهة وجافة، تفتقر إلى اللمسة الإبداعية الإنسانية والتعبير الفني عن المشاعر. صحيح أن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكنها تحليل البيانات بسرعة فائقة، لكنها في كثير من الأحيان تقدم معلومات ناقصة أو مغلوطة لعدم قدرتها على استيعاب التغيرات الدقيقة. لذا، يجب على الكاتب أن يكون مواكباً للمستجدات السياسية والاجتماعية والثقافية ليتمكن من تقديم تحليلات دقيقة وبناء استنتاجات قائمة على دراسات معمقة وأسس فكرية رصينة.
الذكاء الاصطناعي هو تخصص في علم الحاسوب يهدف إلى تطوير آلات وأنظمة قادرة على أداء مهام يُنظر إليها على أنها تتطلب ذكاءً بشرياً، سواء كان ذلك بتدخل بشري محدود أو دون تدخل. هذا التعريف يضعنا أمام نوعين من المحتوى: الأول يخلو من التأثير البشري المباشر على الأفكار والأسلوب ويعتمد فقط على تحليل البيانات المتاحة وتطويرها واستخلاص نموذج جديد بناء عليها، والثاني يجمع بين الإبداع البشري ودقة الآلة حيث يقوم الإنسان بتوجيه العملية وتسخير الذكاء الاصطناعي لمساعدته.
ومع التطور المستمر لأدوات توليد النصوص والفيديوهات العميقة Deepfake، أصبح من الصعب الفصل بين المحتوى المُنتَج بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي والمحتوى الذي يعتمد عليه بشكل ثانوي. إلا أن المحتوى المُنتَج آلياً غالباً ما يتسم بالسطحية، ونمطية الأسلوب، واستخدام تراكيب لغوية عامة وبسيطة، إلى جانب احتمالية وجود أخطاء كلما ازداد الموضوع تعقيداً. في المقابل، فإن المحتوى البشري الذي يستفيد من أدوات الذكاء الاصطناعي في التنقيح والتجويد فقط يتميز بأسلوب فريد وحضور رؤية المبدع الخاصة.
إن مجانية المحتوى المولد بواسطة الذكاء الاصطناعي وسهولة الوصول إليه دون قيود ساعدت في ازدياد الإقبال عليه، ما وضع المبدعين أمام تحدٍ كبير يتمثل بالأساس في تراجع الطلب على أعمالهم، إضافة إلى احتكار سوق المحتوى من طرف الشركات المطورة لأنظمة الذكاء الاصطناعي بإنتاج محتويات مشابهة بكميات هائلة وتكلفة أقل، ما يجعل المنافسة صعبة على الفنانين والكتاب والصحفيين المستقلين. وبالتالي، غياب الحافز للاستمرار وإنتاج أعمال جديدة.
إن برامج الذكاء الاصطناعي تستطيع الوصول إلى أعمال المبدعين واستغلالها لإنشاء أعمال أخرى دون أي تعويض لها، ما يطرح إشكالاً مهماً: من يملك الحقوق الفكرية للمحتوى المنتج عبر الذكاء الاصطناعي؟
تُعرف الملكية الفكرية على أنها سلطة يمارسها المؤلف على أعماله التي يبتكرها، سواء كانت كتابية أو مرئية. وتُعرف أيضاً بحق الشخص في نتاج ذهنه الإبداعي. لكن عندما يرتبط الأمر بالذكاء الاصطناعي، من الصعب حماية حقوق المبدعين، إذ تستفيد الخوارزميات من البيانات المتاحة، وتعيد تشكيلها لإنتاج محتوى جديد. إنها أشبه بعملية اختلاس غير مرئي، وقد صرح مكتب حقوق الطبع والنشر الأمريكي Copyright office.S.U بأن المحتوى الذي يتم توليده بواسطة الذكاء الاصطناعي لا يتمتع بحماية حقوق المؤلف ولا يمكن تسجيله. إن عدم منح حقوق ملكية واضحة لمنشئي المحتوى يفتح الباب للعديد من المخاطر، كالتلاعب بالمعطيات، والانتحال، ونشر أخبار زائفة أو مواد مسيئة. ما يستدعي تحديث التشريعات لاستيعاب مختلف التطورات في هذا المجال، ووضع ضوابط واضحة لاستخدامه لضمان حماية الحقوق الفكرية للمبدع. كما أصبح من الضروري تطوير برامج الذكاء الاصطناعي وفق معايير أخلاقية لا تنتهك حقوق الكاتب الأصلي أو على الأقل تمنح وصولاً محدوداً للبيانات المتاحة، ما يحد من الانتحال والتزييف.
لضمان إنتاج محتوى أصيل يجمع بين الدقة والمصداقية بناءً على أسس واضحة تحترم القيم الإبداعية والحقوق الفكرية، لا بد من نهج إستراتيجية توازن بين الذكاء البشري وسلطته الفكرية وبين ما تتيحه أدوات الذكاء الاصطناعي، ولا يتحقق ذلك إلا بالنظر له كحليف مساعد للإنسان على الابتكار، وليس بديلاً عنه. بشكل يسمح بتقديم محتوى جذاب دون التضحية بالبصمة الشخصية للمبدع فالذكاء الاصطناعي بإمكانه اقتراح أفكار جديدة، وإعادة صياغة الجمل، وتقديم تصحيحات نحوية، وجمع البيانات وتحليلها، وترجمة المحتوى، لكنه لا يستطيع تعويض الحس الإبداعي للكاتب.
الذكاء الاصطناعي فرصة كبيرة لتعزيز صناعة المحتوى والرفع من قيمته، لكنه يحمل في طياته تحديات تتعلق بالإبداع والمصداقية والملكية الفكرية. ويصبح تهديداً للبشرية إن لم يتم استخدامه وفق معايير واضحة تحترم القيم الأخلاقية والإنسانية.

ذو صلة