مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

تأثير الرقمنة على مستقبل الإبداع البشري

يشهد العالم اليوم طفرة غير مسبوقة في تطور الذكاء الاصطناعي، جعلته من أبرز سمات العصر الحديث، ولا سيما في ظل ارتباطه المتزايد بمجالات الإبداع والابتكار. هذه التقنية التي تحاكي قدرات الإنسان الذهنية من حيث التعلّم وحل المشكلات، دخلت بسرعة إلى تفاصيل الحياة اليومية، وفرضت نفسها شريكاً في إنتاج المحتوى الثقافي والفني.
لقد بات من المألوف رؤية الذكاء الاصطناعي يستخدم في صياغة النصوص الأدبية، وتأليف الموسيقى، وإنشاء الصور، والتصميم الجرافيكي، بل وحتى في تحليل السلوك الإنساني وصياغة التوصيات الفكرية. والمؤسسات الحديثة تعتمد عليه لتحليل كميات هائلة من البيانات المستخرجة من أجهزة الاستشعار، والسجلات، والمحتوى الذي ينتجه الإنسان، ما يساعدها على تحسين الأداء، واتخاذ القرارات، وتحقيق الكفاءة.
هذا التطور السريع، وإن كان يوفر أدوات قوية لتسريع عجلة الإنتاج، أثار قلقاً حقيقياً في الأوساط الثقافية والإبداعية، وبخاصة لما ينطوي عليه من تهديد محتمل لطبيعة الإبداع البشري. فقد تجاوز الذكاء الاصطناعي المراحل الأولية التي كانت تقتصر على الأتمتة أو المعالجة التقنية، وبدأ يلامس عمق التعبير الإنساني، في مجالات مثل الشعر، والرسم، والموسيقى، وهو ما اعتبره البعض تجاوزاً لمناطق كان يُظن أنها عصية على الأتمتة.
لكن الإبداع، في جوهره، ليس مجرد ناتج تقني أو تراكب منطقي للبيانات، بل هو تجربة إنسانية عميقة ترتكز على الإحساس، والخبرة، والتذوق الجمالي، والخيال. وهذه كلها عناصر لا يمكن للآلة امتلاكها، مهما بلغت من التقدم. فالآلة، مهما أتقنت المحاكاة، تظل نتاجاً برمجياً يستمد قدرته من بيانات مُدخلة، بينما الإبداع البشري نتاج وعي، وتأمل، وخيال حر.
إن ازدياد استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الثقافة يضع أمامنا تحديات جديدة، لعل أبرزها الحفاظ على أصالة المحتوى وتمييزه عن ذلك المنتج اصطناعياً، وضرورة حماية حقوق الملكية الفكرية للأفراد المبدعين، في ظل التداخل الواضح بين عمل الإنسان والآلة. فلا بد من إعادة صياغة قوانين النشر والتأليف لتواكب هذا التحول، وتضمن أن تبقى الثقافة في قلب التشريعات، لا على هامشها.
هذا التحول التكنولوجي لا يتوقف عند حد التعبير الفني أو الثقافي، بل يمتد ليغيّر من طبيعة الحضارة الإنسانية ذاتها، فنحن أمام مرحلة بناء ما يمكن تسميته (الحضارة الرقمية)، التي تمتزج فيها الثقافة بالتكنولوجيا. في هذه الحضارة، يصبح من الضروري التفكير في أدوات معرفية جديدة، تتناسب مع الواقع الرقمي المتسارع، دون أن تفقد المجتمعات هويتها أو بوصلتها الأخلاقية.
فالتحول في أدوات التواصل، والشبكات الاجتماعية، وآليات إنتاج المعرفة، قد يفضي إلى تغيير في سلوك الأفراد وطبيعة المجتمعات، وقد يؤدي، في غياب الضوابط، إلى تغريب الإنسان أو اختزال هويته. ومن هنا، يبرز الحديث عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، التي لا تنبع من الآلة ذاتها، بل من المبرمج والبيانات المستخدمة. لذلك، فإن حياد هذه التقنيات ليس مضموناً، بل هو في كثير من الأحيان خاضع لمصالح تجارية أو سلطوية.
إن الخطر الأكبر يكمن في تحويل الإنسان إلى مجرد رقم في شبكة البيانات. ومن أجل تجنب هذا المصير، ينبغي العودة إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، لإعادة فهم الواقع المتحوّل، وصياغة مقاربات جديدة تستند إلى (علم النفس الرقمي) و(العلوم الاجتماعية الرقمية)، بما يمكننا من مواكبة العصر دون التفريط في القيم الإنسانية.
ورغم أن الذكاء الاصطناعي يُظهر قدرة مذهلة على تقليد الإبداع، إلا أنه لا يمكن أن يحل محل الإنسان في توليد المعنى، أو التعبير عن المشاعر، أو النقد الفني. فالمبدع الحقيقي لا ينتج فقط ما هو جديد، بل ما هو معبّر ومؤثر وله عمق إنساني لا تستطيع الآلة مجاراته. ومع ذلك، فإن الاستخدام المسؤول لهذه التقنية يمكن أن يعزز من قدرات المبدعين، ويوفر لهم أدوات تسهّل عمليات البحث والتطوير وتحسّن من جودة المنتج الفني والفكري.
في مجال الفنون التشكيلية، على سبيل المثال، قد تساهم هذه التقنيات في توسيع نطاق التعبير الفني، دون أن تحل محل العمل الإنساني الأصيل. فهي تختلف جوهرياً عن الفن اليدوي من حيث المنبع والمنهج، فالفن البشري نتاج موهبة وعاطفة وتفرد، بينما الذكاء الاصطناعي هو ثمرة برمجة وتغذية بيانات.
أما في التصميم، فقد أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي تلعب دوراً مهماً في تنفيذ المهام الفنية، إما من خلال برامج مستقلة تعتمد على تحليل مدخلات المستخدم، أو كأدوات مدمجة ضمن برامج التصميم الشهيرة. هذا التطور، وإن كان يوفر الوقت والجهد، يثير أيضاً مخاوف حول مستقبل فرص العمل، وتقليل الطلب على المصممين البشريين، خصوصاً مع تزايد الاعتماد على أدوات جاهزة تنتج محتوى رقمياً عالي الجودة دون الحاجة لخبرة فنية كبيرة.
إلا أن الحقيقة التي يجب تذكرها هي أن هذه الأدوات تعتمد في نهاية المطاف على البيانات المُقدمة لها من البشر، ولا تبتكر من العدم. فهي تقوم بتجميع ومعالجة محتوى موجود مسبقاً، ما يعني أن الإبداع البشري يظل الأصل والأساس. ويمكن، في المقابل، أن تُستخدم هذه الأدوات لتحرير وقت المبدع من المهام الروتينية، ليُركّز على الجانب الفكري والثقافي الأعمق.
إن قراءة مستقبل الذكاء الاصطناعي لا تنفصل عن التقدم التكنولوجي الشامل، وكلما تسارعت وتيرة هذا التقدم، زاد تأثيره على مختلف نواحي الحياة. فقد أشارت دراسات إلى أن التعليم سيصبح إلكترونياً بالكامل بحلول عام 2050، كما توقعت دراسات أخرى أن تحل تقنيات الواقع الافتراضي محل الهواتف الذكية خلال سنوات قليلة.
كل ذلك يضع البشرية أمام معادلة صعبة: كيف نستفيد من هذه الثورة دون أن نُفرّط في إنسانيتنا؟ وكيف نحافظ على جوهر الإبداع البشري، في ظل انتشار أدوات تنتج فناً رقمياً بنقرة زر؟
في المحصلة، الذكاء الاصطناعي ليس عدواً للإبداع، بل قد يكون حليفاً له، إذا ما أُحسن استخدامه. وما دامت الضوابط قائمة، والوعي متوفراً، فإن هذه الثورة التقنية يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للإنسان، وتُمكّنه من تجاوز حدود الإبداع التقليدي، واستكشاف مساحات فكرية وفنية غير مسبوقة.

ذو صلة