مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الحاضنة المعنية بالسؤال الإشكالي

حال استعراض السِير المعرفية للفلاسفة الأوائل وصولاً إلى المعاصرين منهم والتمعن بحصّالتهم الجدلية التي أوكلوا لها اهتماماً كبيراً سنجدهم جميعاً يتمحورون في سياقٍ مشابهٍ على الرغم من فضائهم الممتد لبسط قيمتهم العلمية مع اختلاف الطرح الذي يتخذونه والذي دائماً ما يكون مرتبطاً بمضمون الشك والوعي المناط في كيفية التعاطي مع حيثيات السؤال وتفكيك أنساقه لإعطاء رؤية مغايرة للعالم بملامح ثرة ومختلفة، فما يتعلق بعلاقة الفرد بالسلطة سواء كانت لاهوتية أو سياسية وموضوعة العدالة الواجب تحقيقها والتفكر بالإنابة والتوقف عند سيل من الاستفهامات المعنية في الإحاطة بالمجمل الكلي لتعيين الدلالة والجدوى المتمخضة عن ماهية إثارتها، سنجد أن المنطلق الذي ينطلقون منه هو تثوير المستقر الذهني لإعادة ترميم النظرة المتبعة للما حول باستجلاء الأسئلة الغيبية المكدسة ومناقشتها على أرض الواقع، وهذه الحالة تتسق وطبيعة الأوان المعيش الذي يصاحب تحفيز أسئلة كهذه، فمن غير المعقول أن نعقد شرعية المقارنة بين فلاسفة القرون الغابرة من حيث نمطية العلاقة السائرة التي ولد منها الفرد واستجابته للمادة الجدلية وبين فلاسفة القرن التاسع عشر أو الذين يأتون بعدهم في كيفية التعاطي مع أسئلة مشاكسة لها أبعادها المتوجسة من لدن المجتمع، ومن الملاحظ أن مقبولية السؤال المتنازع عليه الصادر من قبل الفيلسوف يخضع لمدى استيعاب الجدل الحاصل بينه وبين المجتمع بعدم انحسار الرؤية المستقبلية من قبلهم وهنا تظهر عملية التناغم الفطري بين الطقس العقلاني الذي يدعو إلى التأمل في كثير من الإرث الذي انصهر المجتمع به والتوقف عند تداعياته. إن تحديد العلاقة بين أتباع الدرس الفلسفي بكل ما يتخلله من مفاهيم جدلية لها نزوعها الجاد والمثمر نحو الكشف والنقاش وإعطاء رؤى مغايرة مستجدة حيال نواميس معينة كبّلت الفرد وبين استيعاب تلك المفاهيم على أنها الطريق المضيء لاستبيان جدية المعاملة وطريقة التصرف مع الآخر سواء كان ديناً أو معتقداً أو جماعة أو مؤسسة، لعل من أهم العوامل التي أسهمت في هذا التراجع علو شأن العاطفة وغلبتها على العقل مما يوعز بعدم مقبولية الطرح وترويض الفهم من خلالها لتكون هناك موانع متوارية أخذت مصداتها بصورة أولية قبل أن يفتح باب النقاش ويأخذ تداوليته من العامة، وهنا نكون إزاء سؤال مختلف ومرتبط في هذه الحلقة، هل أن تمرير الأفكار وخضوعها عبر عاطفة الفرد بجميع نتائجها تفسّر على أنها ضرب من الجهل، بما معناه، أن بلوغ الفعل واستقراءه وفقاً للشعور المبطن بعيداً عن ماهية التأمل يعطي آراء مغلوطة وقد نؤسس على هذه الآراء مجتمعاً يعاني من الترهل. بطبيعة الحال، أجد أن علاقة الإنسان بالأسئلة المتعلقة بمقاصد الغيب والدائرة حول الوجود أو التي تحمل في سياقاتها العامة مضامين إشكالية نحسبها من المناطق الملتبسة التي ألزمت الفرد وأدخلته في خانة المسلّمات بحسب التنشئة كونها مرتبطة ارتباطاً كلياً بمفاهيم تعنى بالدين أو ما يتعلق بالنظرة العامة التي تهتم بمصائر المجتمع تكون علاقة منخفضة عند خط معين إن لم تكن علاقة رجعية، لذا فهو يسعى بأن يهيئ أو يستحضر له وصياً لينال أجوبته من خلاله وهنا يكون للوصي -بجميع أوجهه- سلطة التصريح بلسان حال مجتمع ويعبر عن مقدراته بل يستخير عنهم ما لا يحق له التحكم به، ليأتي دور الفلسفة التي تحاول تحجيم هذا النمط بل إزالته لغرض تحقيق العدالة الإنسانية وذلك عن طريق إبادة الأغلال والقيود التي تقوّض من عمل الفرد وتحرّك الساكن الذي أصبح من ضمن الحتميات. من الضروري أن نستخلص أموراً مهمة من خلال متابعتنا لنظريات المعرفة والإيمان بوظيفتها التي بدورها تسهم بتنقية هذا العالم من السخام المتوارث، فلو تحدثنا بإنصاف وبصيرة هل نجد لها دوراً فعلياً في ظل هذا الطقس التكنولوجي والسياحي المتثاقف، أما عاد للحياة وجه مختلف ينم عن نسق حضاري على الرغم من القبح الذي يستعمره، برأيي إن ضرورة الفعل الإجرائي للفلسفة غير متعلق بالفضاء العمراني بقدر ما تعلقه بمدنية الرؤى المأخوذة والمصاغة بنيتها من هاجس السؤال بوصفه حاجة فعلية تنم عن وعي وشجاعة غايتها استنطاق السائد وإعادة صياغته إمعاناً للمنظور الذهني، فمتى ما استطاع العقل أن يتخلص من التبعية ويتفرد بقراره وأن يحتكم لمعايير علمية منطقية تزيل الفعل القطعي لتعيد تدوير السياقات المتخلفة التي حوصر بها الإنسان؛ سينجو هذا العالم.

ذو صلة