مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

أمنيات ما بعد أخبار التاسعة

النغزة الأولى بقلب عاشق، وشاية خصلة الشعر الوحيدة، التي انسلت من بين أصابع صبية وهي تبعد شعرها عن عينيها، متظاهرة بعدم الاهتمام بذاك الجالس هناك (لا تصدقها.. لا تصدقها، إنها كاذبة!). ضحكة رشفة القهوة الساخنة التي لدغته، وهو يرقبها ساهماً.
دهشة، أو عناق.. شهقة طويلة لطفلة يتذوق البحر رجليها الصغيرتين الشهيتين لأول مرة. حبة مطر تنزل بأرض دكالة. لثغة (زينة) وأنا أحايلها لكي تنطق اسمي (بُسّا). ذاك المتبقي على حوافي شفتيها حين تلمه بطرف لسانها، أنحاز قليلاً مشاكسة لتطيله هي أكثر، كي تصل إلي. مشبكاً لشعرها القصير شريطة أن تقبلني كثيراً حتى أرضى، كلما استغل هو ركضها المتواصل هنا وهناك.. ليوقعني من عليه غيرة.
ما يتناثر من أطراف أصابع تفرك بعضها عند أول انتظار. حبات الخضة اللذيذة التي تتساقط من جيوب القلب، وأرجوحة اللهفة تدفعه أكثر فأكثر إلى الأعلى، كلما صرخ طالباً منها التوقف. تلك الحياة التي نبتت فجأة على حوافي شفتي جدتي حين غازلها جدي هذا الصباح، وهي تخلل شعرها الأبيض جيداً بالحناء: (يا الله.. كم أنت جميلة اليوم يا زاهية!). خجلها المستفز الذي وكأنه نضج لتوه قبل ستين سنة. ذلك المقطع من الرسالة الذي نعيده ونعيده أكثر من مرة. غطاء دافئ جداً، جداً، جداً يعتذر لعجوز كوم ثلج المغرب المنسي جسمه الأزرق (بلى يا سيدي.. أنتم أيضاً مغاربة). هدوء موت غريب لا أهل له.
علبة بسكويت صادف أنه غُطي بالشوكولا مرتين، أسقطت نفسها قصداً من نافذة سيارة مفتوحة، مرت للتو بجانب متشرد صغير يتنطط محاولاً دس ثلثي جسمه في حاوية أزبال، دون أن تبتعد قدماه الحافيتان كثيراً عن الأرض. حنان معتّق في صدر أُمّ لم تنجب، أُسكبُ على كل أطفال العالمين. أمنية صبية تستحي حتى من الله، وهي تنفثها في كفيها المضمومتين. غيمة مكتنزة بالدعوات.
آه الراحة الطويلة التي يطلقها الوطن دون توقف، كلما غسل له أحد أبنائه الطيبين رجليه الضخمتين والمتسختين كثيراً كثيراً بماء دافئ، ودلكهما حتى ينام. تجعدات أطراف الستارة الرقيقة التي تعرف لوحدها سر ابن الجيران العائد قبل أيام قليلة من الخارج. تثاؤب زهرات شرفتي وهنّ يغمزن للشمس. إهداء في رواية، أو اللون الأزرق في لوحة فنية، أو صوت فيروز الذي ينفرط رقة.
يا الله.. لو خلقتني أيّ شيء، أيّ شيء جميل غير أن أكون هذا البشع الذي يسمى (إنساناً)، هكذا كانت تصرخ جارتي كل مساء بعد أن تشاهد أخبار التاسعة.
ذو صلة