مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

القرى التراثية في المملكة العربية السعودية.. قرية ذي عين مثالاً

تُعد القرى التراثية أحد أشكال التراث العمراني الذي يُسهم في إبراز أصالة حضارات الأمم ودرجة التقدّم التي وصلت إليه في مختلف مجالات الحياة، وتنتشر تلك القرى في جميع مناطق المملكة العربية السعودية، مُبرزةً تنوّعاً ثقافياً فريداً لسكان المملكة، في عاداتهم، وتقاليدهم، وفنونهم، وشاهدةً على انتقال هذا التراث إلى الأجيال اللاحقة، ليُمثّل في مجموعه هويّة وطنية تجمع ما بين القيم الأصيلة للمجتمع وحاضره المعاصر.
كما تُعد تلك القرى عنصراً من عناصر الثروة الثقافية التي تقوم الدولة باستثمارها ودعمها من خلال رؤية المملكة 2030 التي تُشجّع التنويع الاقتصادي في القطاعات غير النفطية، فقامت بتوفير الحماية للمواقع التاريخية بهدف الحفاظ على التراث والثقافة، وتوفير فرص عمل لأفراد المجتمع، وتطويرها لتكون وجهة سياحية جذّابة، وتُعد قرية ذي عين إحدى القرى التراثية التي تشتهر بها المملكة.
قرية ذي عين التراثية
يعود تاريخ بناء القرية إلى القرن العاشر الهجري، قبل أكثر من 400 عام، وتقع في محافظة المخواة، بقطاع تهامة، التابع لمنطقة الباحة، على بُعد نحو 25 كم من مدينة الباحة. وقد بُنيت القرية على قمة جبل صخري، يتّصف بكثرة حجارته البيضاء. واستُخدِم الطين (اللّبن) في دواخل المباني. وتُحاط القرية بمرتفعات جبلية من ثلاث جهات. وسُمّيت ذي عين لوجود عين تصبّ من الجبال حول القرية تمرّ عبرها، وتتعدَّد مصبّات تلك العين في عدّة أماكن، ويُسمِّي أهل القرية كل مصبّ باسم معين. تضم القرية نحو 49 منزلاً مختلفة الارتفاعات، بعضها مكوّن من دور واحد، والبعض الآخر مكوّن من دورين، أو ثلاثة، أو أربعة، مبنية بنظام الحوائط الحاملة المعروفة باسم (المداميك)، ومسقوفة بخشب السدر، والمنازل متلاصقة ومتراكبة فوق بعضها البعض لتبدو لمن يشاهدها من الخارج كقلعة واحدة، وتصطف في ثلاثة مستويات تفصل بينها تشكيلات صخرية جميلة، ويوجد فيها مسجد صغير، روعي في اختيار موقعه أن يتوسط بين القرية والمزارع، وأن يكون في أول القرية باتجاه المزارع ليكون في استقبال الزائرين أو العابرين، وتشتهر القرية بزراعة الموز البلدي، وزهور الكادي، والليمون، والريحان، كما تشتهر ببعض الصناعات اليدوية، كالأواني المنزلية المصنوعة من سعف النخيل وأليافه، وتضم مصدراً دائماً للمياه. ولتوزيع مياه العين على المزارع قانون خاص، كما يوجد في أعلى القرية حصن دفاعي لأغراض المراقبة والحماية، وللقرية نقاط مشاهدة، أهمها النقطة الواقعة في مدخل القرية، والتي تُمكّن الزائرين من رؤية المكان بشكل بانورامي رائع تظهر فيه مباني القرية على جبل المرمر والمزارع، وتظهر القرية كما في الصورة المرفقة.(1)
جهود المملكة للحفاظ على قرية ذي عين التراثية
شرعت حكومة المملكة العربية السعودية في إعادة تأهيل وتنمية قرية ذي عين، في إطار جهود إيجاد حلول تطوير القرى ذات الأهمية التراثية والقيمة التاريخية بمنطقة الباحة، لمنع تعرّضها للتدهور أو الاندثار، وكانت قرية ذي عين على وشك الاندثار لولا تلك الجهود، وتُوضّح الصورة المرفقة الحالة التي كانت عليها القرية قبل إعادة التأهيل.(2)
وقد خضع بعض من تلك الجهود إلى التقييم من قبل الباحثين، حيث تم عمل تقييم شامل لتجربة تأهيل قرية ذي عين، شَمِل الجوانب العمرانية المادية، والعوائد الاقتصادية، والعوائد الاجتماعية، والعوائد البيئية، وأظهرت النتائج العديد من نقاط القوة في تلك الجوانب.
وقد خصَّصت هيئة التراث مبالغ ضخمة لتأهيل القرية، وترميمها، وتطوير بناها التحتية، ومرافقها، والمحافظة على المزارع المحيطة بالقرية، حيث تمّ تأهيل الممر الرئيس للقرية، وإنشاء جلسات على طول الممر إلى الشلال، وإعادة افتتاح المسجد، وتأهيل عدد من المباني لجعلها متحفاً، بالإضافة إلى إنشاء مركز الزوّار، ودورات مياه عامة، وتُبيِّن الصورة المرفقة القرية والطريق المؤدي إليها.
كما تم تسجيل القرية في السجل الوطني للتراث العمراني، مع تقديم خدمات سياحية متكاملة، من فنادق تراثية، ومقاهٍ، ومطاعم تعكس النكهة المحلية، والمساهمة في توظيف أبناء وشباب القرية في تلك الخدمات السياحية، ودعم الأنشطة الاقتصادية، والمنتجات المحلية، والأسر المنتجة بالقرية، وتدريب طلاب جامعة الباحة في أقسام التربية الفنية على تصميم المشغولات والمعلقات الفنية لتكون مستوحاة من القيم الجمالية في العمارة التقليدية التي تتمثّل في حصون قرية ذي عين وبيوتها وقلاعها، بجانب إنشاء متاجر لعرض منتجات الحرف اليدوية التي تشتهر بها القرية، وهو ما يعكس الحفاظ على الهوية الثقافية للقرية، وتناغمها مع جهود الدولة في إيجاد فرص العمل لأهلها، بالإضافة إلى تهيئة القرية تمهيداً لإدراجها في قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
لقد تم استخدام أساليب متنوعة في إعادة البناء، والترميم والتجديد واستخدام مواد بناء مستخلصة من البيئة المحلية، وأساليب معالجة حديثة لإطالة عمر المبنى دون التأثير على الأصالة. وتوضّح الصور المرفقة إعادة بناء الأسقف المنهارة في المباني القائمة بنفس المواد وطريقة البناء التقليدية، وبعض أجزاء من القرية قبل وبعد عمليات الترميم.(3)
كذلك تم تطبيق إستراتيجيات التنمية المتكاملة بدمج التراث في خطط التنمية المحلية، والاستفادة من التقنيات الرقمية، وتنمية الوعي المحلي من خلال المنصّات الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي عبر حسابات جهات إشرافية وتنظيمية تم استحداثها خصِّيصاً لتطوير منطقة الباحة، مثل المكتب الإستراتيجي لتطوير منطقة الباحة، ونشره للوعي المجتمعي، والتعريف بالقرية عبر حسابه على منصة X (تويتر سابقاً).
وقد تمّ تنظيم وإقامة العديد من المهرجانات الموسمية، والاحتفالات، والفعاليات الثقافية المختلفة في القرية بما يساهم في إبراز ثقافة مجتمعها، مثل: الفعالية التي نظّمتها هيئة التراث في الرابع من يناير 2024م، لمدة 4 أيام، شملت استعراض ما تحتويه القرية من ثروات طبيعية، وبشرية، وتاريخية، وتفاعل الزوّار مع الحرفيين في منطقة الحرف التفاعلية، وتجربة عدد من الألعاب الشعبية في منطقة الألعاب التراثية، وتجربة الأطباق التقليدية في منطقة تذوق التراث، كذلك تنفيذ هيئة التراث مبادرة لاستقبال وتهنئة زوّار القرية بعيد الفطر لعام 2025م، تضمنت تقديم الهدايا، وتقديم معلومات شاملة عن منطقة الباحة بشكل عام، وعن قرية ذي عين بشكل خاص، بالإضافة إلى تفعيل عدد من الأنشطة الجديدة ضمن فعاليات صيف الباحة لعام 2025م، مثل وجهات التسلّق بالتعاون مع وزارة الرياضة، والاتحاد السعودي للتسلّق والهايكنج، واستقبال الوفود التابعة لشركات السياحة من مختلف الدول للترويج السياحي للمنطقة، والشراكات الإستراتيجية مع شركات سياحية رائدة.
إن استمرار الحفاظ على القرى التراثية يتطلّب تعاوناً بين الدولة وأفراد المجتمع، من خلال التنسيق بين أهالي القرى والجهات المنفِّذة لمشاريع التنمية والتأهيل، وكذلك رفع الوعي البيئي لدى السائحين والزوَّار. وكما شهدت (ذي عين) على عظمة الإنسان القديم الذي بناها؛ فإنها شاهدةً أيضاً على اعتزاز الإنسان المعاصر بتراثه.


(المصدر: الموقع الإلكتروني لأمانة الباحة، نقلاً عن وكالة الأنباء السعودية)
(المصدر: مجلة عمران، العدد (64)، السنة (17)، فبراير 2018م)
(المصدر: مجلة عمران، العدد (64)، السنة (17)، فبراير 2018م)

ذو صلة