مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

(ابتسامة الموناليزا) دراما تاريخ الفن وتاريخ المرأة المتجددة

يشير عنوان هذا الفيلم ابتسامة الموناليزا (2003) إلى معضلة ممتدة لأكثر من خمسة قرون لفهم الابتسامة الغامضة لليزا جيرارديني، أو الموناليزا للفنان ليوناردو دا فينشي (1452 - 1519). ولعل مردّ هذا الإعجاب العالمي باللوحة الشهيرة يعود خصوصاً إلى الالتباس في التعبير الظاهر في الوجه. وهذه لفتة في تاريخ الفن، وهناك لفتة أخرى يُسقطها العمل على صاحبة أجمل ابتسامة على مدار سنوات، الممثلة جوليا روبرتس، التي حصدت 25 مليون دولار مقابل دورها، وهو أعلى مبلغ مالي تكسبه ممثلة في ذلك الوقت. كما يتناول الفيلم ما شهدته سنوات الخمسينات من القرن الماضي من تغيير اجتماعي كبير في الولايات المتحدة، وما يعني أن تكون أمريكياً تعيش الحلم الأمريكي، وبخاصة في جانبه النسوي.
في 19 ديسمبر 2003، أصدرت شركتا أستوديوهات الثورة وكولومبيا بيكتشرز هذه الدراما الأمريكية التي تسلّط الضوء على حياة الطالبات وأعضاء هيئة التدريس في كلية ويلسلي خلال الخمسينات. أخرج هذا الشريط الفني المخرج البريطاني مايك نيويل، وهو من تأليف وسيناريو الكاتبين الأمريكيين لورنس كونر ومارك روزنتال، اللذين اقتبسا اسم الفيلم من لوحة دا فينشي الشهيرة، ومن أغنية تحمل الاسم نفسه غنّاها في الأصل نات كينغ كول، وأعاد غناءها في الفيلم سيل. بينما قام ببطولته: جوليا روبرتس، وجوليا ستايلز، وكيرستن دانست، وماجي جيلينهال.. وغيرهم. ومدة العرض: 119 دقيقة.
حبكة الفيلم وأحداثه الرئيسة
نشاهد كاثرين آن واتسون، الشابة الثلاثينية (تؤدي دورها جوليا روبرتس)، ترتحل عام 1953 من كاليفورنيا إلى ويلسلي لتُعيَّن أستاذة فنون لفتيات مدرسة ويلسلي كولدج الثانوية، وهي مدرسة معروفة بسيادة الفكر المحافظ فيها. وتتطور الأحداث الدرامية بين رفض الطالبات لهذه المعلمة الليبرالية ذات التفكير الحر، وبين نشوء صداقة تتجاوز تعليم تاريخ الفنون، حيث تُعلّمهن التفكير المنفتح وتطوير أدوارهن الاجتماعية التقليدية. فكيف حدث ذلك؟
تدور أحداث الفيلم في عام دراسي متخيَّل (1953- 1954). وفي البداية، تجد كاثرين صعوبة في التأقلم مع الحياة في ويلسلي، ليس فقط لأن طالباتها حفظن المنهج كاملاً، مما منعها من التدريس بكفاءة، بل لأن مستقبل الكثير منهن محدد وتقليدي، حيث يركّز بوضوح على الدور الأساسي لربة البيت والأمومة، دون مزاحمة مزاولة أي مهنة خارج المنزل. ونرى مشهداً تُعلّم فيه معلمة أخرى (بأسلوب رصين وبلاغة عالية) الطالبات كيفية إعداد وتجهيز الطاولة لتعزيز مسيرة أزواجهن المستقبليين.
وتناقش كاثرين طالباتها، مدركةً أن ليس جميعهن يتطلعن للحياة المنزلية فقط، لكنها تجد في البداية أن الأصوات المحافظة أعلى بكثير من الأصوات الليبرالية التي اعتادت عليها. وبخاصة عندما أصبحت فتيات ويلسلي المتزوجات بارعات جداً في الموازنة بين التزاماتهن المنزلية واستمرارهن في الدراسة. وتشيع تعليقات مثل: أستطيع دهن الدجاج بيد ورسم الخطوط العريضة للورقة باليد الأخرى. فضلاً عن أن النساء لم يكن يُدعَين إلى المجال العام للعمل، بل كُنّ يُقدَّمن آنذاك فتيات دعاية وإعلانات للمجال الخاص الذي أصبحن يمثّلنه.
تصاعد الأحداث الدرامية
تكتب بيتي وارن، المحافظة، مقالات افتتاحية في صحيفة الكلية، وتُصرّ على وجود معيار عالمي للفن الجيد. وتهاجم كاثرين لدعوتها النساء إلى البحث عن وظائف بالإضافة إلى الزواج، وتشجيعها الطالبات على تقرير مصيرهن وأنماط الحياة التي يرينها مناسبة. وقد حاولت هذه المعلمة أن تشجع تلميذاتها على الثقة بأنفسهن، وأن تختار كل واحدة منهن الدراسة للعمل وبناء مسيرة مهنية ناجحة. ومن الأفكار المهمة التي تقدمها لتلميذاتها الدعوة لأن تكون كل واحدة امرأة جديدة لا امرأة تقليدية تعيش وفق القواعد والأنماط التي يحددها المجتمع.
مواصلة التحاور حول خيارات المرأة
لا يُعتبر هذا العمل فيلماً نسوياً تماماً، على الرغم من دور كاثرين، الشخصية الليبرالية؛ إلا أنه يُخاطب بوضوح الثقافة المنزلية والتوقعات المحيطة بالنساء الشابات البيضاوات والثريات على الأرجح. فمع استمرار العام الدراسي، تتطور ديناميكيات العلاقة بين المعلمة وطالباتها، فتتواصل كاثرين بعمق وموضوعية معهن، وتحاول تثقيفهن وتنويرهن، مما يدفعهن إلى النظر والتفكير خارج إطار مقرر تاريخ الفن التقليدي. بل يتجاوزه إلى التفكير في التوقعات الأسرية المبنية على النوع الاجتماعي، ودور المرأة ومكانتها المجتمعية، وما إذا كان يجب على المرأة الاختيار بين الأسرة والمهنة، وكيفية إيجاد مسارها المهني الخاص عندما يتعارض مع توقعات المجتمع أو توقعات الآباء والأساتذة والأصدقاء.
نعم، خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ازدادت معدلات الالتحاق بالجامعات بين النساء، ولكن ليس بنفس معدل الرجال. ومع عدم ضمان الشهادات الجامعية للنساء فرصاً وظيفية متساوية ومجزية كما هو الحال بالنسبة للرجال، فإن العديد من النساء البيضاوات كنّ أكثر ميلاً إلى ترك الجامعة للزواج، لكونه خياراً أكثر أماناً واستقراراً. وفي المقابل، بينما كان عدد النساء السود الملتحقات بالجامعات أقل بكثير، فإن من التحقن بها كنّ يملن إلى إكمال دراستهن، لأنهن كنّ يتوقعن الحصول على وظائف، ولأن الشهادات الجامعية ستحسّن فرصهن الوظيفية.
لكن الشريط لا يعرض قصة تتضمن طلاباً من السود أو غيرهم من الطلاب الملوّنين في ويلسلي، ولم يعكس تجاربهم، ما كان سيوفر وجهات نظر مختلفة بشأن قيمة الحصول على شهادة جامعية. ويلاحظ أن الفيلم لا ينتقد صراحة الظروف المذكورة آنفاً، بل يعرضها عبر تصرفات الشخصيات الرئيسة، وجميعهن (باستثناء كاثرين) جزء من مجال الكلية الحقيقي. ويشعرن جميعاً بضغط الزواج، ليس فقط بعد التخرج، بل أيضاً لبعضهن، مثل بيتي وارن، أثناء الدراسة الجامعية.
كانت بيتي متحمسة للزواج من خطيبها سبنسر، وتتوقع الإعفاءات التقليدية للطالبات المتزوجات. ومع ذلك، تُصرّ كاثرين على أنها ستُقيّمها بناءً على كفاءتها، وتتوقع منها إكمال جميع الواجبات والاختبارات. وعندما لا تسير حياة بيتي الزوجية بسلاسة، تبدأ في تفريغ إحباطها على الفتيات الأخريات، وبخاصة كوني وجيزيل.
في الختام
بالرغم من أن كاثرين تنتقد معيار الاستقرار في مهنة ربة البيت في الخمسينات بصوت عالٍ لطلابها، وتحثهن على التفكير خارج نطاق ما تعلّمنه، إلا أن الفيلم -في عصر اتسم بالصرامة المنزلية حيث الأسرة محور كل شيء- لم ينجح في تحطيم هذه الصور النمطية تماماً، إذ ينتهي الأمر حتى بالطالبات اللواتي انتقدن هذا التوقع بالزواج في نهاية الفيلم.
فقد كان حلم جوان براندوين، وهي طالبة لدى كاثرين، أن تدرس الحقوق في جامعة ييل لتصبح محامية. وشجعتها كاثرين على التقديم، وعلى الرغم من قبولها، رفضت جوان الانضمام، وقررت الزواج من صديقها توم دونيجال واعتماد الدور التقليدي لربة المنزل. وعندما أخبرت جوان أستاذتها أن هذا ما تريده حقاً، هنأتها كاثرين وتمنت لها السعادة، إذ إن الثقافة الاجتماعية السائدة حينذاك لم تُعط أي قيمة تُذكر للنساء المتعلمات إذا لم يكن هدفهن الأول والأساس هو المنزل.
وعلى الرغم من رفض إدارة ويلسلي لأساليب كاثرين التعليمية التقدمية، فإنها دعتها للعودة في العام التالي نظراً لشعبية مقررها الدراسي، ولكن بشروط صارمة، فرفضت كاثرين واستقالت. وقد أهدت بيتي آخر افتتاحية صحفية لها، معجبةً بها بوصفها قدوة، وتحدياً للطالبات لرؤية العالم بعيون جديدة. وبينما تغادر كاثرين بسيارة أجرة، تبعتها الطالبات في المشهد الختامي على دراجاتهن لوداعها.
محطات على طريق ابتسامة الموناليزا
- حقق الفيلم نجاحاً مالياً كبيراً، فقد تكلفت ميزانيته قرابة 72.3 مليون دولار، بينما بلغت إيراداته 141.3 مليون دولار أمريكي. ونالت جوليا روبرتس 25 مليون دولار مقابل دورها، وهو أعلى مبلغ مالي تكسبه ممثلة سينمائية في ذلك الوقت.
- لاقى الفيلم استحساناً فاتراً من العديد من النساء اللاتي درسن وعشن في الكلية خلال تلك الفترة. وقالت نورما سوليميني رافاييل، دفعة 1954: كان عمري 18 عاماً ورأيت هذه الخطوة، فلم أرغب في الذهاب إلى هناك أبداً.
- رغم أن ثقافة ويلسلي عام 2025 تختلف بلا شك عن عام 1953، فإن الكلية لم تنجُ في مشاهد الفيلم من وسمها بـالصور النمطية.
- انقسم النقاد والخريجون والمشاهدون حول رأيهم في الفيلم المثير للجدل وحبكته السردية وجمالياته البصرية، وطرحوا أسئلتهم التالية: هل يقع على عاتق أفلام الخيال التاريخي مسؤولية تصوير الموضوعات التي لا تزال حيّة وماثلة في الواقع؟ وكيف عكست لوحة الموناليزا وخانت في آن واحد توقعات ما بعد الحرب فيما يتعلق بالأنوثة والحياة المنزلية؟

ذو صلة