مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

ليتني كنت ديناصوراً!

أغمض عينيه، وانسلت ذكرى قديمة إلى ذهنه..
قبل سنوات، في مقهى صغير، كان ياسر يقلب صفحات كتاب (من حرك قطعة الجبن الخاصة بي؟) حين وقعت عيناه على عبارة: (من لا يتغير، ينقرض).
توقف عندها طويلاً. شعر أنها تخاطبه مباشرة. لقد تراكمت عليه الخيبات. الركود، قلة الطلب، نظرات الشفقة حين يمد يده الملوثة بالطين ليناول أحدهم تحفة خزفية لا تلفت انتباه أحد. الحرفة التي كانت تسكن وجدانه، باتت عبئاً لا يطعم خبزاً ولا يمنح احتراماً.
بدأ بالتخلي عن مهنته كخزّاف. كانت يداه تعجن الطين وتصنع منه أشكالاً تحمل جزءاً من روحه، لكن العالم لم يعد يهتم بالطين. تعلم البرمجة، وغرق في عالم الأرقام حتى صارت لغة الآلة أقرب إليه من لغة البشر.
أدرك أن هدوءه لم يعد يناسب عصر الضجيج، فتعلم الصخب، رفع صوته، تخلى عن لطافته القديمة، لأن العالم -كما رأى- لا يرحم الضعفاء.
غيّر مظهره، أسلوب حديثه، حتى أفكاره صارت مرآة لما يريده السوق، لما يجذب المتابعين، لما يمنحه القبول. وكلما بدا له أنه يقترب من النجاح، كان يفشل في الضحك بصدق، أو في البكاء.
ذات مرة، جلس أمام لوحة خزفية قديمة من صنع يديه، فلم يشعر بشيء.
لكنه لم يهتم. المهم أنه لم ينقرض.
فتح عينيه مجدداً، نظر إلى انعكاسه. لأول مرة، خطر في ذهنه مصير الديناصورات. تلك الكائنات العظيمة التي لم تستطع التكيف مع التغيرات المناخية، فانقرضت. لطالما رآها رمزاً للفشل، لكنها على الأقل رحلت وهي تحتفظ بجوهرها. لم تصبح شيئاً آخر لتعيش. لم تغير جلدها، ولم تزوّر ذاتها.
أما هو، فقد فعل ذلك مراراً، حتى لم يعد يعرف من يكون.
تساءل بخوف: (هل كنت سأفضّل الانقراض على أن أصبح هكذا؟)
أخرج هاتفه، قلب في صوره القديمة، حتى عثر على وجه شاب بملامح مشرقة، بعينين تحملان يقيناً لا يهتز. كان ذلك هو... أو شخصاً كان يشبهه يوماً ما.
رفع عينيه إلى المرآة مجدداً، يتأمل الغريب الذي أصبحه. لقد نجا من الانقراض، لكنه فقد كل شيء كان يعنيه.
وفجأة، شعر أن أمنيته الحقيقية تنبض في داخله بلا خجل:
تمنى لو أنه ديناصور.

ذو صلة