مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

في حضرة المدينة.. تأملات في الشارقة

للمدن عتبات تُقرأ منها كما النصوص التي لا تُفض مغاليقها إلا بولوج هذه العتبات للكشف عن خباياها وتضاعيفها الثاوية بين السطور في السرد، وبين الحنايا والزوايا في المدينة. ولكل مدينة شخصيتها المتفرّدة والمتأبّية على التنميط والتكرار. ومهما قلنا عن تشابه المدن، لا سيما في الغرب، يظلّ شيئاً ما عصيّاً هنا في الشرق على المماثلة، ومحلّقاً في سماء الفرادة صانعاً روحه الخاصة.
في الشارقة، ولجتُ عتباتها المختبئة في الحيّ القديم. للشارقة روح البحر، وفضاء الحكايات الذي فيه يتماهى الأفق، ويندمج البر والبحر في رؤية واحدة. وللبحر رائحة الصيد، وسفن اللؤلؤ المُشرعة على قلب التاريخ، والمفتوحة على ألقِ العمارة التي تعكس خصوصية المباني الخليجية التراثية الساحلية المطلة على مشهدية الخليج العربي المتلامس مع المحيط الهندي، والمستشرف لأفق سواحل الهند والشرق الآسيوي البعيد، والنافذ صوب الساحل الأفريقي، حيث ممالك الخليج الغابرة في أفريقيا.
لهذه الخصوصية الجغرافية كان للخليج حظٌّ وافِرٌ من مطامع أوائل حركات الاستعمار، فكان مسرحاً لأوائل العمليات الاستيطانية له. يشهد بذلك المدفعان أمام بوابة الحصن التاريخي، اللذان يقبعان مشرعين على البحر، كأيقونة تاريخية تحكي مشهداً رأسياً من الصراع البرتغالي على مدن الساحل الخليجي. فذات وقت، ظنّت السفن البرتغالية أنها قادرة على محو الممالك القديمة، وأن تكون بحار العالم القديم ملكاً لأسطولها وحده، يمرح فيها كما يشاء، ويتّخذه متّكأً له في حركة الحملات الاستعمارية، لكنها تفاجأت بالمقاومة التي أثخنتها وكبّدتها خسائر فادحة، فرحل المستعمر الهاوي سريعاً، مدركاً أن تجربته في الأمريكيتين وإبادته للهنود الحمر عصيّة على التكرار في الخليج العربي. وعمّا قليل، وللعجب، تخرج البرتغال من قواعد اللعبة الاستعمارية، لتتقوقع خلف سواحلها مرة أخرى، وتترك الملعب للقوتين العالميتين الناشئتين آنذاك: فرنسا وإنجلترا، اللتين تسابقتا في احتلال البلاد شرقاً وغرباً ومصّ خيراتها. إنها المفارقة التي تستعصي على الفهم، وعلى حركة التاريخ، ليخلو وجه البحر مرة أخرى، إلا من النوارس، وسفن البحر الصاعدة والهابطة، وثغاء الجالسين بأمان عليه.
في مديح الشارقة
ترانا ابتعدنا قليلاً عن مديح الشارقة، لله درّ التاريخ، يضغط علينا أبداً.. نحن الذين حملنا أوزاره في منطقتنا العربية. أرفع حركة التاريخ عن كاهلي وأُولّي ظهري للبحر بتجلّياته، وألِجُ دروب المدينة الملتوية، تسلّمني فضاءاتها من دربٍ إلى درب: بيوت حجرية، وسوق شعبية تُباع فيها المنتجات التراثية. لا أدري لماذا ذكّرتني بشارع المعزّ في القاهرة؟ ربما هي توأمه الروح. أسير تحت قباب ودروب، أعبر بيوتاً صارت الآن متاحف تعرض أنماطاً من فنون الحضارة والتاريخ. أنتبه لفرادة العمارة الإسلامية الترنسندنتالية الموحدة في الأفق، والمختلفة في التفاصيل: المداخل المنكسرة للبيوت، المنعرجات والمنعطفات، وبوابات الحارات، والطرق الضيقة المقاسة على روزنامة الهندسة القديمة، حيث سعة الطريق أقصاها أن يمرّ منها جملان متقابلان بحملَيهِما. إنها روح مدننا التي لا تعكس عشوائية التخطيط بقدر ما تعكس فرادة القطاعات المعمارية، والتي تجلّت كلها واختزلت في (الحصن)، القصر الذي كان مقرّاً للحكم في الإمارة.
في مثل هذه الأماكن أميل إلى قراءتها -إن جاز التعبير- باطنيّاً، فللأماكن تجليات على القلب. أقف في ساحة الحصن مغمضاً عيني باتجاه الضوء، أرى دينامية الحركة اليومية وديمومتها بعين قلبي: فرسان يهرعون على ثبج الخيل باتجاه أقيانوس الصحراء الممتد أمام الحصن، عمّال يخرجون ويدخلون، سجين يُساق إلى محكوميته، أماسٍ في ليل الخريف الصحراوي المقمر في ساحة القصر، أهازيج البحارة العائدين من مواسم الصيد، ليل الأفراح والأتراح، ثم الرحبة (السارية القصيرة المكتنزة) المدقوقة كوتدٍ ينتزع القلب على باب الحصن.. هل كانت فعلاً علامة دالّة على قسوة غابرة؟ أم رمزاً مشرعاً في مجاز الترهيب؟
أفق المجاز
أترك المدينة القديمة، وأسير باتجاه الخليج، تسلّمني الطرق إلى بحيرتها (المجاز)، والمجاز لغةً: المعبر أو الممر. أما هنا، فهو مجاز بين عالمين: عالم النهار حيث صخب العمل الذي لا يهدأ، وعالم الليل الهادئ -لا سيما في الشتاء- تنتشر الأسر من كل الأجناس على امتداد الحديقة الخلابة النائمة في حضن البحيرة، يصنعون طقساً مسائياً من بهجة.
أسير وسط الحشود الكوزموبوليتية مستمتعاً بهذا الدفء الإنساني الهادئ، أتوقف أمام مجسّم كبير للعب الشطرنج، أنتظر دوري لألعب أمام خصم شرق آسيوي، يغلبني الماكر سريعاً، فأبتسم وأغادر، أعلّل نفسي بأن هناك مسرّات أخرى في (المجاز). أعود إلى غرفتي، أنام كما ينام طفلٌ عائد إلى بيته.
صباح بلون الحكمة
أنا مشتاقٌ وعندي لوعة
ومثلي (يُذاع) له سرّ
اشتياقي للكتب الورقية هو سري.. فرغم ظهور الوسائط الحديثة التي صارت تُغنيك عن امتلاك الكتاب الورقي، لكني مازلت -وسأظل- أحبّ الكتاب الورقي. أُكدّس في حقيبة سفري عبر العواصم التي زرتها عشرات الكتب، أُدسّها في مكتبتي التي ربما لن أقرأ كتبها كلها، ولا نصفها يوماً. إنه شيء أقرب إلى حِرفة البخل والاكتناز، لكنه جميل.
أُوقف تاكسي باتجاه (دار الحكمة)، يخرج بنا من المدينة ويسير باتجاه الأفق الصحراوي، أتذكّر (دار الحكمة) التي أنشأها المأمون ذات عصرٍ ذهبي في تاريخ حضاراتنا العربية، شجّع العلماء والأدباء والمترجمين حتى إنه منح وزن ما يُترجم ذهباً، فحُفظ في لحظة مفصلية من تاريخ الإنسانية كل تراث الحضارات القديمة، لذا يخطئ كثيرون حين يَغْمِطون (دار حكمة) المأمون حقها، لأنها هي وحدها الرافعة الحضارية التي حُفظ بفضلها كل مكنون الحضارات القديمة، ومنها أصبحت جسراً ومعبراً للحوليات الإنسانية الجديدة. لا شيء كان سيبقى من فارس أو الصين أو اليونان لو لم تكن (دار حكمة) بغداد.
أفيق، يُنبّهني السائق: وصلنا إلى (دار حكمة الشارقة).. أدخل المبنى الهادئ المكيّف.. آخذ فنجاناً من قهوةٍ صباحية، وأطوف بالمكان.. أتأمل آلاف العناوين والأركان الهادئة.. أسأل عن النشاط هنا فيستفيض أحدهم في الشرح.. أطلب من أحد العاملين عنواناً نادراً لكتاب أبحث عنه فيوفّره لي.. أُسرّ وأختلي به في ركنٍ هادئ حتى المغيب.
الليل يتدفق شعراً في الشارقة
في بيت الشعر بالشارقة، المبنى التراثي الذي في ساحته تُقام الندوات الأدبية، لفتت نظري زخارف الشبابيك الخشبية، ذكّرتني بشبابيك البيوت الطينية القديمة في الدلتا المصرية، شيئاً ما يجعل الأسى يتخاطر.. أتفاجأ بالحضور الكثيف للندوة من كل الجنسيات التي تهدر شعراً بالعربية وربما بلغات أخرى.. يرحّب بنا بدماثة مدير المكان، يتبارى الشعراء في إلقاء ما تيسّر من أشعارهم، تتشكّل حلقات جانبية مهمومة بالأدب، تتعارف الوجوه وتتلاقى، ينفسح المدى ويتشعب الحديث، وتلقي بسهام النقد أحياناً على سحر القول المتلو آنفاً، لكن ثمة رابطاً يجمع الكل، إنها هدأة الروح وأنسها تحت وطأة الضيافة الكريمة وبهجة المكان.. فيما أشعر أنا أني بحاجة لغفوة.. غفوةٍ هادئة حتى مطلع صباحٍ جديد.

ذو صلة