تراثنا العربي الخالد، زاخر بالروايات الملهمة والقصص المثيرة والحكم البليغة والأحداث الساخنة والوقائع المفجعة، من خلال حضارات متعددة، وأمم خلت، ومجتمعات متنوعة مختلفة، وأديان عدة، وطوائف مذهبية كثيرة، نسبت من خلالها القصص المثيرة والأحداث الكثيرة والشواهد الشاخصة.
يُحكى في إحدى القرى في المدن العربية، كان هناك رجل ثقيل معروف، وسمعته تسبق اسمه، ذو بصيرة وصبر وبأس شديد ورباطة جأش، يتحمل الصدمات والمحن والمصائب وضغوط الحياة دون أن ينحني أو يشتكي أو يمل أو يستسلم من قوة بأسه. كان الجميع يظنون أنه لا يتأثر بشيء أبداً، وأنه بليد كاظم الغيظ، وسره عميق لا يبالي بعاديات الزمن، حتى جاء يوم تراكمت عليه كل هموم الدنيا في ليلة سوداء، ودوت مشاكل الزمن عليه وقسوة الحياة والحيف، ومال به الوقت وغدر به الزمان، وتخلى عنه الجميع في أيام الشدة والضيق، إلى أن شاهد منظراً لم يتوقعه، وحصل موقف لافت بسيط لكنه موعظة، جعله يغضب وتثار حميته من فرط غضبه وصبره، عندها أدرك وشعر أن الإنسان ضعيف رغم جبروته، حتى أقوى الناس وأدهاهم صبراً قد يفقد حدود صبره وتضعف إرادته بلحظة فزع وهول صدمة، وأن التراكم المتكرر يصنع الانهيار والهزيمة، بلحظة ما بين الانفلات والهدوء، والقوة والضعف، والصبر وفقدانه، وأدرك أن صغار الأمور مهما تصغر يمكن أن يدفع الرجل ثمناً باهظاً كبيراً، وكما قيل: (إن البعوض تدمي مقلة الأسد!).
وممكن أيضاً أن تكون صغائر الأمور هي التي تظهر حجم المعاناة الحقيقية للموقف، وممكن كبار المصائب تسهل في لحظة شجاعة وتأمل وشيء من الحكمة!
ولذلك يقول الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
ولنا في قصة الحيوان الأليف، سفينة الصحراء، وصبر الجمل، أكبر مثال في التراث العربي.
ويقال: (القشة التي قصمت ظهر البعير).
يحكى أن رجلاً أعرابياً كان يمتلك جملاً قوياً كبيراً جداً وصبوراً، يطلق عليه في البادية (الهرش)! قرر الرجل ذات مرة أن يسافر في الصحراء من مكان إلى بلدة بعيدة جداً، فأناخ الجمل وبدأ يحمل بعيره بالأمتعة المثقلة شيئاً فشيئاً على سنام الجمل، حمولة تتلوها حمولة. لم يكتف الرجل بما حمل، بل أكثر مما يجب تحميله وطاقة تحمل البعير، واستمر في إضافة الأغراض والعدة والأدوات، حتى عندما نهض الجمل بحمولته المثقلة أصبح يترنح ويتمايل من ثقل الحمولة عليه، لكن أخذته العزة بالإثم. وناداه الناس بجانبه: أيها الرجل، ارحم بعيرك، فقد أثقلته كثيراً يا رجل! لكنه لم يبال، ولا استمع، ولا استدرك، ولا آلمه شعوره، وقلبه القاسي، بل وضع أيضاً فوق كل الحمولة حزمة صغيرة من القش الخفيف، وقال: هذه خفيفة جداً ولن تؤثر عليه أبداً. وما إن وضعها حتى كبا الجمل وانهار وسقط أرضاً من هول ثقل الحمولة على ظهره التي لم يستطع تحملها، واندهش وتعجب الناس، وقالوا: هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير!
لكن في الحقيقة، الأصل لم تكن القشة الخفيفة هي التي أسقطت الجمل وحمولته، بل السبب الحمولة الثقيلة والكثيرة من الأغراض المتعددة والأمتعة المتنوعة التي تراكمت على سنام الجمل، والتي لم يستطع الجمل تحملها لأنها فوق طاقته وقدرته، فكانت الحمولة الزائدة الأخيرة (القشة) هي التي لفتت انتباه الناس حين كبا على الأرض، وما أظهر نهاية حياة الجمل وسقوطه على الأرض والعجز لقوة الحمولة السابقة، هي السبب الحقيقي بانهيار الجمل أرضاً.
قال تعالى في كتابه الكريم: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)
وكان مشهد القشة وثقلها البسيط هو الذي صنع مشهد المأساة ونهاية كبرياء الجمل الكبير الذي هبط أرضاً مثقلاً، ولكن السبب الرئيسي هو ما تحمله طول الوقت من ثقل فوق طاقته وقدرته، لا علاقة له بالقشة.
كم من أسباب كثيرة ومواقف وأحداث وتجارب نسبت لخفيف الوزن، ولكن الفعل الأكبر للوزن الثقيل القاتل!