منذ العصور الأولى، شغل الإدراك موقعاً محورياً في التفكير الفلسفي، إذ سعى الفلاسفة إلى فهم مدى موثوقية الحواس في تمثيل الواقع. فبينما رأى (أفلاطون) أن المدركات الحسية ليست سوى انعكاسات باهتة لحقائق مثالية أسمى، ذهب (ديكارت) إلى أن الارتياب في الحواس يمثل نقطة الانطلاق نحو المعرفة اليقينية. ومع تطور العلوم الحديثة، اتخذ هذا الجدل أبعاداً جديدة، إذ بات التساؤل مطروحاً حول حدود ما يمكن للعقل الإنساني أن يدركه. فهل تعكس حواسنا العالم كما هو، أم أنها تُنشئ واقعاً ذهنياً يُعاد تشكيله وفق تجاربنا السابقة وتكويننا العضوي؟ تلك الإشكالات ما تزال تثير الحوار بين الفلسفة والعلم في سعيهما الدائم لفهم طبيعة العلاقة بين الوعي والعالم الخارجي.
تحضر الروابط الاجتماعية بين الأفراد بوصفها منظومة معرفية، تؤسس الظواهرُ الثقافية حضورَها الفكري ووجودَها العملي. وبما أنّ النسق الاجتماعي الوظيفي الذي يرتكز على الحضور الفكري والوجود العملي، لا ينحصر دوره على المكوّن اللغوي فحسب، كان لديناميكية الوعي الوجداني المتأثر بصيرورة التاريخ، والمتجلّي في إدراك الإنسان لتحوّلاته الذاتية عبر الزمن والمكان، تأثيره النوعي على المنظومة الاجتماعية والثقافية. وإذا كان الزمنُ يمثلُ البعدَ الفلسفي لتكوّن المعرفة، فإن المكانَ يجسّد البعدَ الكياني للحياة المعيشة، ومن ثمّ يتجلى الارتباطُ العضوي بين الوعي والشعور من جهة، والمعرفة والواقع من جهة أخرى، بوصفه نواةَ التشكّل الاجتماعي عبر المسارات التاريخية المتشابكة مع المكوّنات البيئية مادياً ورمزياً، وهو ما يؤسس لوعي نقدي بالتجربة الإنسانية اليومية، فرديةً كانت أم جماعية، ويعيدُ تثبيت مركزية الوعي الحضاري في مواجهة مظاهر الغياب المتنامية داخل البنى الفكرية، والمعايير الأخلاقية، والسلوكيات الاجتماعية.
ولأن المحرّك الرئيس لتشكّل الأفكار في المجتمع يرتبط بعمق الذاكرة الجمعية، وبما تختزنه من تجارب الحياة الواقعية، وتشابكها مع الوعي والإدراك والسلوك، فإنّ الذاكرة الجمعية تمثّل الحصن الواقي للتراث الحضاري من التفكك الداخلي، وتحفظ للإنسان فرديّته من الانقسام الهويّاتي، الذي تخلقه ضغوط المنظومات الاستهلاكية الصارمة، كما لا يمكن للروابط الاجتماعية أن تترسخ في الممارسة اليومية، ما لم يتحوّل الفعل الاجتماعي إلى نسقٍ عقلاني متزن ومتوازن، خالٍ من الكبت والاضطراب النفسي والذاكرة المقموعة، لأنّ كلّ فعل اجتماعي يصدر عن مرجعية ثقافية متجذّرة، وكل نسق عقلاني هو نتاج طبيعي للذاكرة الجمعية، التي تمتد جذورها في تاريخ الفكر، وتسهم في بناء مجتمع متآلف في ثقافته وحضارته وقيمه الأخلاقية.
من هنا، يحضر الإدراك الحسي ليس بوصفه فعلاً فيزيولوجياً محضاً، يتلقّى إشارات العالم الخارجي، بل هو منظومة معقّدة تتضافر فيها الحواس مع الوعي والذاكرة، لتشييد صورة ذهنية للوجود، فالإدراك ليس نافذة شفافة تطل على الحقيقة، بل هو فضاء تتشابك فيه التجربة الذاتية والمعرفة المكتسبة والانفعال النفسي في لحظة عيش واحدة، ومن خلال هذا التفاعل المستمر، يتحوّل الصوت إلى معنى، والضوء إلى إحساس، والملمس إلى تجربة وجدانية. إن الإدراك الحسي بنية ديناميكية متحوّلة، تُعيد تشكيل ذاتها مع كل خبرة جديدة، متجاوزةً حدود العضو الحسي إلى فضاء تأويليٍّ، يؤنسن العالم ويمنحه دلالته، وبهذا المعنى، لا يكون الإدراك مجرد انعكاس للواقع، بل هو فعل تأويلي متجدد، يسعى إلى تحويل الغامض إلى مفهوم، والمجهول إلى مألوف، عبر حوار دائم بين الذات والعالم.
يتجلّى الإدراك، في ضوء ذلك، بوصفه منظومة معرفية متشابكة تتفاعل فيها التجربة الذاتية مع الوعي الجمعي والثقافة. فالمحسوسات ليست مجرد معطيات فيزيائية تُلتقط بالحواس، بل تمثلات رمزية مشبعة بالمعاني، فاللون الواحد قد يحمل دلالات متناقضة باختلاف البيئات الثقافية، فالبياض الذي يرمز للنقاء والفرح في مجتمع ما، قد يشير إلى الحداد والفقد في مجتمع آخر، كما أن التجربة الانفعالية للحظة الحاضرة تُعيد تشكيل ما ندركه، فيغدو المطر، على سبيل المثال، عزاءً مهدئاً للبعض وذكرى جارحة لآخرين، ويمثّل بيت الطين ذكريات الطفولة لدى البعض، ويرتبط بالفقد لدى البعض الآخر. وتستثير الألوان والملابس التقليدية، الإحساس بالهوية التاريخية لدى البعض، في حين لا تعني شيئاً لدى البعض الآخر. من هنا، لا يكون الإدراك انعكاساً ساذجاً للواقع، بل فعلاً تأويلياً مركباً، يشتبك فيه النفسي والاجتماعي والثقافي، في صياغة صورة فردية للوجود تتجاوز حدود الحس المباشر.
وتشكّل الذاكرة، البنية التحتية لكل إدراك حسي، فهي الوعاء الذي تُختزَن فيه التجارب السابقة، لتعيد من خلاله تشكيل وعينا بالعالم، فكل صوت مألوف أو رائحة محددة يستدعي من مخزون الذاكرة صوراً وانفعالات تُعيد تجسيد التجربة في الحاضر، فيغدو الإدراك امتداداً زمنياً لا ينفصل فيه الماضي عن اللحظة الآنية. ولا يقتصر هذا الدور على الاسترجاع السلبي، بل يتجلى في فعل تأويلي يعيد بناء الحاضر في ضوء الخبرات السابقة، فالفزع من الكلاب، مثلاً، قد يتأسس على تجربة واحدة، لكنه يستمر في الوعي ليتحوّل إلى منظومة إدراكية متكرّرة تُوجّه التفاعل مع الواقع. إن الإدراك، في جوهره، عملية زمنية متجددة تشتبك فيها الذاكرة مع الحواس، لتصنع وعينا المتغير بما يحيط بنا من أصوات وصور وروائح.
ولما كانت الحواس هي النافذة الأولى لتشكّل إدراك الإنسان للعالم، تكوّنتْ الصورة الأولى للواقع من خلال البصر والسمع والشم واللمس والتذوق، وهذه الإدراكات الحسية تُكتَنّز في الذاكرة لتصبح جزءاً من الرصيد الجمعي الذي يعبّر عن هوية الجماعة وثقافتها، وحين يتشكّل هذا الرصيد داخل الهيكل المجتمعي، مثل: روائح الأماكن، وصوت الأذان، ولون وشكل الزخارف التقليدية للمباني، تتحوّل هذه المدركات الحسّية إلى رموز مشتركة تختزنها الذاكرة الجمعية، فالشمّ، مثلاً، يعيد استدعاء روائح الطفولة، كرائحة بيت الطين بعد المطر، ورائحة خبز التنور في الصباح، ورائحة الأم أو الأب، أمّا البصر فيستحضر أماكن الطفولة، مثل أماكن اللعب في المزارع، وتفاصيل بيوت الطين، ومكان تناول القهوة في البيت القديم، وتسترجع حاسة السمع صوت الأم، وضجيج اللعب في فناء البيت، وأذان الفجر، والألحان الشعبية مثل: صوت السامري، والعرضة النجدية، أمّا حاسة اللمس فتستعيد دفء يد الجدّة، وملمس اللّحاف أو القماش القديم، أمّا حاسّة التذوق فتوقظ طعم الخبز، وأشكال الطعام، ونكهة الحليب الدافئ في الصباح، وغيرها. وتحضر الثقافة لتُعبّر عن هذه الإدراكات الحسّية من خلال نُظم حسّية رمزية، ففي الطقوس والعادات، مثلاً، تُستعاد التجارب الحسية ذاتها لتعزيز الانتماء، وفي اللغة، نجد كثيراً من التعابير الحسية، والاستعارات الإدراكية، مثل: الطعم المرّ للهزيمة، برودة المشاعر.. وغيرها من الاستعارات التي تعبّر عن وعي ثقافي جماعي بالحواس.
وفي عصر الرقمنة، أسهمت الوسائط الحديثة في تشكيل علاقتنا بالحواس جذريّاً، حيث هيمنتْ الحواس البصرية والسمعية عبر شاشات العالم الافتراضي، في الوقت الذي تراجع حضور الحواس الأخرى: اللمس، والشم، والتذوّق، والتي كانت تؤسس لتجربة بشرية أكثر حيويةً وإنسانية، حيث أُقصيَتْ هذه الحواس وسط هيمنة البيئة الرقمية التي ترتكز فيه الإدراكات الحسّية على المرئي والمسموع فقط، الأمر الذي أفضى إلى اختزال الخبرة الحسّية، واغتراب الجسد عن محيط، فصار الإدراك الحسّي يعتمد على الوسيط الافتراضي في تفاعله اللمسي والشمّي والذوقي، فحلّتْ الصورة محل اللمس، وحلّ الرمز محل الرائحة، وحجبَتْ لوحة الجهاز الزجاجي حرارة العالم ودفئه.
على الرغم من ذلك، اهتمّ الفنانون والمصممون السعوديون بمقاومة هذا التقهقر الإدراكي للحواس، عبر توسيع حدود الرقمنة، وتوظيفها بوعيٍ جمالي وذوقي وفني، حيث قدموا أعمالاً فنية من شأنها أنْ تعيد للحواس مكانتها، فصمموا لوحات تفوح منها رائحة القهوة، ولوحات أخرى تعتمد على الصوت الطبيعي للماء والموسيقى، وأعمالاً فنية تقوم على اللمس وتمييز المادة، في خطوة لاستعادة الحواس المفقودة وسط زحام الرقمنة.
وهكذا، تتجاوز الحواس وظيفتها البيولوجية لتصبح ذاكرة ثقافية حيّة. فهي ليست أدوات استقبال فحسب، بل آليات إنتاج للمعنى، إذ تُعيد تشكيل الماضي في كل تجربة إدراكية جديدة، بذلك تغدو الذاكرة الجمعية شبكة من الإشارات الحسية التي تُعيد تعريف الذات والمجتمع في مواجهة الزمن والتغير.