ميز الله عبده بالعقل، فجعله كائناً قادراً على تلقي العلم، واستيعاب الفكر، وصياغة الفن، وإرساء التقاليد والعادات، ونسج اللغة في نسق يلائم بيئته ويمنحه هويةً خاصة به... ثقافة الإنسان هي الجذر المتين والبصمة التي تهبه تفرداً بين الآخرين.
وحين نقول (فلانٌ مثقف)، نعني أنه ثري العقل، غني المعرفة، نقي الفكر، مبدعٌ، مبتكرٌ، حكيمٌ، راق، صاحب شخصية وهوية، مفتوح الآفاق، واسع الإدراك والفطنة... وإذا رغبنا في صوغ تعريفات للثقافة، فلن نبلغ نهايةً، لأن التعريفات عديدةٌ، تفتح نوافذ جديدةً على عالمها الواسع.
وفي خضم الحديث عن الثقافة، نجد أن أول ما يتبادر إلى أذهاننا أمثلةٌ محصورة، فنهرول — عند رغبتنا في دراسة ثقافة شعب من الشعوب — إلى البحث في كتبهم ومقالاتهم وبحوثهم كي نفهم طرق تفكيرهم، والتمعن في لوحاتهم الفنية والصور الفوتوغرافية لنغوص في رؤيتهم للأمور عبر الفن، فنكون عينهم المبصرة، ثم ننتقل إلى أفلامهم الوثائقية والدرامية والكوميدية وغيرها، لندرك قصص مجتمعهم والآفات التي يعانون من آثارها وسبل مواجهتها. حتى أننا ننظر إلى عمارتهم في البيوت وزخارفهم في المساجد والكنائس والقلعات، وننتقل إلى لباسهم وزينتهم لأنها تمثل عاداتهم وحياتهم الاجتماعية. ونستمتع بمشاهدة عروضهم الفنية المتمثلة برقصاتهم الشعبية ومسرحياتهم... يكون كل ذلك فكرةً شاملةً عن ذلك الشعب، فنفهم كيف يعيش، وندرك خطوطه الحمراء، ونميز ما بين المسموح عنده والممنوع.
لكن ما يجب أن ندركه تماماً في الحديث عن ثقافة أي شعب من شعوب الأرض، أن الإبحار فيها ليس حكراً على ما يرى بالعين، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك بكثير. فكيف نحصر الثقافة - بضخامة مفهومها وسعة أفقها - بحاسة واحدة (النظر)، ونغفل عن الحواس الأخرى؟ إنه لمن المهم جداً إدراك أن الثقافة تشاهد وتشم وتسمع وتلمس ويتذوقها الإنسان، لأنها مبنيةٌ على أعمدة الحواس الخمس، وإغفال حاسة من تلك الحواس يعني أننا نبتر طرفاً من أطرافها ونظلمها في دراستنا لها.
إذاً، كيف يمكن للثقافة أن تتذوق؟ عبر النكهات والمذاقات التي تتميز بها. فالنكهة تكتنز في طياتها ذاكرة المكان والزمان، وتعيد الحاضر إلى حنين الماضي وتحييه، وتختزن حكايات الشعوب وطبائعهم وأذواقهم، وتحمل رائحة الأرض وهمسات الأجداد وملامح التاريخ. أنا أؤمن أن الطعام ليس مجرد طعام فحسب، بل يتعدى ذلك ليصبح جسر عبور إلى ما هو أساسي، إلى جذور الإنسان وأصله، إلى قيمته الحقيقية التي مهما حاول جاهداً أن يطحن في حاضره المادي، يجد نفسه تواقاً إلى الزمن الجميل.
وبالحديث عن النكهات، نعني بذلك أيضاً الروائح، لأنها جزءٌ من الذاكرة، ورمزٌ للحنين إلى الأماكن والأشخاص، وعلامةٌ مميزةٌ تعبر عن هوية جماعية، وهي الحاضرة الأولى في المناسبات وعند ممارسة الطقوس الدينية والاجتماعية. إن الرائحة تنساب في المكان، فتربطه بالزمن، وتنسج منه لوحةً فنيةً فريدة.
وكي لا نحصر كلامنا بالشق النظري، علينا أن نستحضر النكهات والروائح: الكركم، القرنفل، الهيل، اللومي، الزعفران، الزنجبيل، والقهوة العربية، وكذلك التمر، ورائحة البخور والعطور القوية. فأي ثقافة تومض في الخاطر؟ إنه حتماً الخليج الذي اتخذ النكهة والرائحة وسيلةً للتعبير عن الانتماء والذكريات. فلا تكاد تخلو الجلسات العائلية الخليجية من حضور الكبسة والمجبوس والهريس والمندي، لتفوح روائح البهارات ببصمتها الثقافية الفريدة، وتغدو عادة متوارثة تعبر عن دفء المائدة. ولا يقتصر الحديث على روائح الطعام، بل يكون من المستحيل ألا نشتم عطور البخور والعود والمسك والعنبر، التي تقتحم القلب قبل الأنف، كونها روائح ترحب - قبل أصحاب المنزل - بالنزيل، وتخاطبه بلغة الحب والكرم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نكهة زيت الزيتون والزعتر البلدي ورائحتيهما اللتين تجعلانك تسافر بالخاطر إلى لبنان، حيث غابات الأرز والصنوبر، فتستنشق رائحة المناقيش الساخنة وعطر الخبز الطازج الذي يحكي ألف حكاية وحكاية. وماذا عن رائحة الياسمين والورد الدمشقي؟ وعن نكهة الفتة والحمص والفول، ورائحة المعمول التي تبشر بقدوم العيد؟ يأخذنا ذلك إلى بيوت دمشق القديمة، إلى فنائها المزروع أشجاراً وأزهاراً، فتخال أنك تجلس على حافة النافورة، تسمع خرير المياه الذي يعكس هدوء المكان وجماله.
وناهيك عن النكهات والروائح، نجد أن الأصوات تشكل نسيجاً اجتماعياً، لأنها واحدة من الرموز التي يشترك فيها أفراد المجتمع الواحد، وهي تشبه اللغة في كونها عنصراً يعبر عن التواصل. لنأخذ مثال الأذان، وهو صوتٌ ذو رمز ديني اجتماعي روحي، ليس وليد الآن بل منذ وجد الإسلام، أي قبل آلاف السنين. وهو ليس مجرد صوت، بل نداءٌ مقدس لتأدية واجب يبلغ أهمية كبرى لدى الشعوب المسلمة. إنه دعوة الإنسان إلى ممارسة الراحة والطمأنينة وملاقاة السلام الداخلي. فكيف لا يكون هذا الصوت جزءاً من ثقافة الإسلام؟ بالإضافة إلى الأصوات الصادرة عن شوارع الأسواق التي تزدحم بالمارة والباعة ومحلاتهم التجارية وعرباتهم الخشبية المتواضعة، تلك الأصوات التي تشكل سمفونية متناغمة وإيقاعاً يبرز عفوية الحياة اليومية ويشير إلى الاستمرارية والأمل. وكذلك الأصوات التي حالما نسمعها نستذكر الأرياف وبساطة العيش، كصياح الديك وتغريد العصافير وخوار البقر، وكذلك حفيف السنابل وخرير المياه، وصوت طقطقة الملاعق والأكواب عند اجتماع العائلة على مائدة دافئة تعيد إلى الذاكرة الطفولة البريئة، وغيرها من الأصوات التي لا يمكن حصرها بنص نثري، كلها خيوط تحبك ثوباً ثقافياً رائعاً.
وبالحديث عن الحواس، تبقى حاسة اللمس واحدةً من أهم الحواس وأقلها ذكراً أو تناولاً، مع العلم أن اللمس ليس عملاً بديهياً، بل هو أيضاً شكلٌ من أشكال اللغة والتواصل بين اللامس والملموس. وعندما نقول (لمس)، فنحن نقصد أولاً الحرف اليدوية التي يبني معها الحرفي علاقة وطيدة، فهو يتكلم بيديه ويتعرف إلى المادة التي سيتعامل معها عن طريقهما. هذه العلاقة تبين مدى ترابط الإنسان بالطبيعة، إذ إنه منها جبل. ففي صناعة الفخار، يغمس الحرفي يديه بالطين، يلمسه، يشعر به، يتناغم معه ويذوب فيه، فيشكله وكأنه يمنحه الحياة. فهل يمكن لذاك الحرفي أن ينسى ذاك الملمس؟ مستحيل! وكذلك الأمر في النسيج والتطريز، إذ تحبك الخيوط وتحبك معها آلاف القصص والذكريات، وكذلك لمس الحجر والخشب والطين وكل ما يتعلق بالعمارة. لا يمكن أن تنسى أو أن تلمس لمس الكرام، لأنها تنحت في الذاكرة نحتاً يصعب محوه، ويعيد الإنسان في كل مرة إلى ما يميل إليه قلبه وتطلبه عواطفه.
أعتقد أنك تطرح الآن أيها القارئ سؤالاً مهماً: لم لم نعد نعير اهتماماً لتلك التفاصيل الجميلة؟ لم حصرنا ثقافتنا بالأمور المرئية فقط؟ حتى أننا لم نعد نرى كما يجب! فقد انحصرت رؤيتنا من الأمور إلى القشور فقط!
إشكالية مهمة. وأقول لك إن الإجابة خطيرةٌ وتهدد مصير البشر! إن زمننا هو زمن الشاشات، وعلى وجه التحديد الهواتف والإنترنت. وما أدراك ما الإنترنت! عالمٌ بصري مؤذ، أخفى الحواس الأخرى، وألغى كيفية استخدامها. فقد هيمنت الصورة، ومع أن الصوت موجودٌ، إلا أنه بات ضعيفاً. إذاً، نحن انحصرنا بالمشاهدة، ضعف سمعنا للأصوات، وألغيت تماماً عملية اللمس والرائحة والتذوق. فبتنا نختار وجباتنا من شكلها، لا من رائحتها ولا طعمها، وصرنا حريصين جداً على تصويرها أولاً، فنتناولها باردةً بعد محاولات التصوير العديدة. استغنينا عن المتعة في عيش اللحظة، واخترنا أن نوثقها حتى لو لم نكن سعداء!
فما الحل إذاً؟ أؤمن أن الحل لا يطبق بالكلام النظري فحسب، بل هو يحتاج إلى إرادة فردية وجماعية. يجب علينا - كبشر ننتمي إلى ثقافة معينة - أن نحافظ عليها، ونعززها بالحواس التي وهبنا إياها الله، وأن نستغلها بكل ما أوتينا من نعم. من الضروري أن نلمس جيداً كي نفهم ونشعر، وأن نسمع ونشم ونتذوق بعمق وخشوع وتأمل، وكأننا نعيد اكتشاف العالم من جديد. أن نمنح أنفسنا وأعمالنا الوقت الكافي، وأن نقدر اللحظات الثمينة. والأهم من كل ذلك، أن الخطوة الأولى تبدأ من التعليم، وتدريب الأجيال الصاعدة على تفعيل الحواس من خلال إدخال مادة الفنون، وكذلك في المواد التعليمية الكافة، وتطبيقها بالشكل الصحيح، وإدخال المفاهيم التي تجعل الأطفال يتقنون استعمال حواسهم لتنمية أذواقهم وأرواحهم.