في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي يشهدها العالم، أصبحت التنمية المستدامة والحياد الكربوني من الأولويات القصوى للدول الساعية لتحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة. وفي هذا السياق، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب رئيسي يسعى إلى إحداث تحول جذري في ممارساته الاقتصادية والبيئية من خلال رؤية المملكة 2030 التي تضع الاستدامة والاقتصاد الأخضر في صميم إستراتيجياتها. لذا فإنه لابد من إبراز دور وجهود المملكة لتحقيق الحياد الكربوني، وتسليط الضوء على الآليات المبتكرة لترشيد الطاقة والمياه، والاستفادة من المخلفات الزراعية والصناعية، وتطوير التشريعات الخضراء ووضع آليات المشتريات الخضراء، وتنمية المؤسسات لتصبح خضراء، إلى جانب الحديث عن الإمكانات المتاحة مستقبلاً من استخدام مصادر الطاقات البديلة كالهيدروجين الأخضر.
والتعريف الأكثر شهرة للتنمية المستدامة هي أنها التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها في المستقبل. وحيث إن التنمية المستدامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة، فإن تعريف البيئة أيضاً يعد أمراً مهماً، فالبيئية هي تفاعل ما بين محيطات ثلاث، البيئة الطبيعية، أو الأيكولوجيا، وهو ما يطلق عليه المحيط الحيوي، والمحيط الاقتصادي والصناعي، والمحيط الاجتماعي. معنى ذلك أن التنمية المستدامة تهتم بكل الجوانب المجتمعية من صحة وتعليم ومساواة وإدماج وإنصاف، بالإضافة للتنمية الاقتصادية والعمرانية وتنمية الموارد والمؤسسات والبنى التحتية، وأن تخدم جميعها تنمية البيئة الطبيعية والحفاظ عليها.
في المملكة، أصبحت هذه الفكرة مدمجة في السياسات الوطنية من خلال عدة برامج ومبادرات كبرى مثل: رؤية 2030، ومبادرة السعودية الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر، وبرنامج التحول الوطني. تركّز المملكة على تعزيز التنوع الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، وتحقيق التوازن البيئي عبر زراعة الأشجار، والحد من انبعاثات الكربون، وتحسين جودة الهواء والمياه، وتعزيز كفاءة إدارة النفايات. فعلى سبيل المثال، في مشروع نيوم، هناك مفهوم جديد لتحلية مياه البحار باستخدام الطاقة الشمسية فيما يسمى القبة الشمسية الذي يسعى إلى ترشيد استهلاك الطاقة في عمليات تحلية المياه. سيؤدى ذلك إلى توفير مصادر الأمن المائي للمناطق المحيطة بهدف تنمية المجتمع وتحفيز النمو الزراعي والعمراني، مما يؤكد على متانة سلاسل الطاقة والمياه والغذاء.
الأمر الآخر للحديث هو تحقيق الحياد الكربوني. الحياد الكربوني يُقصد به تقليل الانبعاثات الكربونية إلى أقصى حد ممكن، ثم موازنة ما تبقى منها من خلال آليات مثل التشجير أو احتجاز/ التقاط الكربون. في هذا الإطار، التزمت المملكة بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، من خلال عدد من الإجراءات والخطط الإستراتيجية منها تطوير مصادر الطاقة المتجددة، تطوير تقنيات احتجاز وتخزين الكربون، استخدام الهيدروجين الأخضر، والاستثمار في الاقتصاد الدائري للكربون.
وفى سعي المملكة لتقليل إنتاج الكربون والعمل نحو الحياد الكربوني والحفاظ على موارد البيئة الطبيعية، فمن ضمن الآليات المبتكرة لترشيد الطاقة والمياه في المملكة تقنيات البناء الأخضر، وتشجيع استخدام مواد بناء مستدامة، وأنظمة عزل حراري، وإنشاءات ذات كفاءة عالية في استخدام الطاقة، وأنظمة الطاقة الذكية من خلال تركيب عدادات ذكية لإدارة استهلاك الكهرباء، بالإضافة لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الاستهلاك عن طريق إنترنت الأشياء والاعتماد على المستشعرات في المنازل الذكية. ويظهر هذا جلياً في جميع المشروعات التنموية التي تقوم بها المملكة في الوقت الحالي. يأتي أيضاً إعادة استخدام المياه الرمادية ضمن الآليات التي تقوم بها المملكة لتشجيع إعادة تدوير المياه المنزلية المستخدمة لري الحدائق أو إعادة استخدامها في دورات المياه. هذا بالإضافة لتحلية مياه البحار بالطاقة المتجددة من خلال تطوير محطات لتحلية المياه تعتمد على الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، لتقليل الانبعاثات.
وفى ذات التوجه، فإن الاستفادة من المخلفات الزراعية والصناعية يأتي نصب عين المملكة العربية السعودية بما يحقق الاقتصاد الدائري المعتمد على حسن استغلال الموارد وإعادة استخدامها وتدويرها. من ضمن الإجراءات التي تتبعها المملكة في مشروعاتها حالياً تحويل النفايات إلى طاقة من خلال استخدام تقنيات مثل الهضم اللاهوائي لتحويل النفايات إلى طاقة أو غاز حيوي وإنتاج السماد العضوي عند الاستفادة من المخلفات الزراعية، ما يقلل الحاجة إلى الأسمدة الكيميائية. ذلك بالإضافة لإعادة تدوير المخلفات الصناعية من خلال تطوير منشآت حديثة لإعادة تدوير المعادن والبلاستيك والأوراق.
ومن أجل تحقيق كل ذلك، تأتي مفاهيم التشريعات الخضراء والمشتريات الخضراء ضمن أولويات وضع السياسات الحاكمة لتحقيق التنمية المستدامة. فما يتم في المملكة العربية السعودية حالياً يتضمن سن قوانين بيئية ملزمة مثل فرض نسب كفاءة طاقة معينة على الأجهزة، وتحديد معايير الانبعاثات في القطاعات الصناعية، بل ووضع قوانين بيئية للحفاظ على التنوع البيولوجي فى البيئات المختلفة البرية والبحرية والمحمية. في المملكة العربية السعودية، تم إصدار العديد من القوانين والتشريعات البيئية في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تعزيز الاستدامة البيئية. من أبرز القوانين والتشريعات: النظام العام للبيئة (2001م) الذي صدر عن الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة (سابقاً) ويهدف إلى حماية البيئة من التلوث والحفاظ على الموارد الطبيعية وتعزيز التنمية المستدامة، نظام إدارة النفايات (2021م) الذي يهدف إلى تنظيم جمع ومعالجة النفايات وتقليل الأثر البيئي للنفايات وتعزيز التدوير. بالإضافة لذلك، تم إصدار نظام المياه (2020م) الذي يشمل حماية مصادر المياه، وتقنين استخدامها، ويمنع التعدي على موارد المياه الجوفية والسطحية. بالإضافة لذلك، صدر نظام الأرصاد (2021م) لتنظيم الرصد المناخي والبيئي، ويشمل مراقبة التغيرات المناخية والظواهر الجوية.
ولتعزيز فكرة التكامل وتجنب الجزر المنعزلة، فإن تطبيق القوانين البيئية تضطلع به الجهات الحكومية المختلفة بشكل متكامل داخل المملكة مثل وزارات البيئة والمياه والزراعة والمركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي والمركز الوطني لإدارة النفايات (موان) والمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر والهيئات الملكية للبيئة.
ولتأمين التزام المملكة بالتحول الأخضر، فإن استخدام الموارد المختلفة داخل المؤسسات لابد أن يتسم بالخضرة أيضاً. لذلك فإن تطبيق مبدأ المشتريات الخضراء بات أمراً لا يمكن تخطيه. نظام المشتريات الخضراء هو إلزام الجهات الحكومية بشراء المنتجات والخدمات الصديقة للبيئة والتي تتسم ببصمة كربونية منخفضة -إضافة الى جودتها العالية وتكلفتها المناسبة- مما يحفّز السوق نحو التوجه الأخضر. يتأتى ذلك من خلال تشجيع المؤسسات الصناعية على الحصول على شهادات الاستدامة لتعزيز التزامها البيئي. ويعنى هذا ضرورة تنمية المؤسسات لتكون خضراء من خلال تحفيز الابتكار البيئي ودعم الشركات الناشئة التي تقدم حلولاً بيئية مبتكرة وتمويل التحول الأخضر من خلال توفير حوافز وضمانات تمويلية للمؤسسات التي تتبنى ممارسات صديقة للبيئة. ولذلك فإن تطبيق نظام المشتريات الخضراء مرهون بتعزيز ثقافة المؤسسة الخضراء من خلال دمج مبادئ الاستدامة البيئية في ثقافة العمل اليومية، وتدريب الموظفين على تقليل البصمة البيئية.
وبالنظر إلى قطاع الطاقة في المستقبل من أجل تحقيق التنمية المرجوة للأجيال القادمة، فإنه في إطار سعي المملكة للحداثة وتنويع مصادر الدخل والريادة العالمية، فإن استخدام الهيدروجين الأخضر يأتي ضمن الأولويات التي يمكن أن تساهم في تحقيق أمن الطاقة، ليس في المملكة وحدها وإنما في المنطقة ككل. الهيدروجين الأخضر يعد وقوداً نظيفاً عالي الكفاءة تعمل المملكة على تطوير منظومة إنتاجه من خلال إنشاء مشروعات ضخمة مثل مشروع (نيوم للهيدروجين الأخضر) من أجل تصدير الهيدروجين إلى الأسواق الإقليمية والعالمية لاستخداماته المختلفة في النقل والصناعة.
تشكل التنمية المستدامة والحياد الكربوني طموحاً إستراتيجياً للمملكة العربية السعودية، وهي تمضي بخطى ثابتة نحو تحقيق هذا الهدف عبر سياسات واضحة، ومشروعات رائدة، وتعاون دولي. يمثل الابتكار في ترشيد الطاقة والمياه، والاستفادة من المخلفات، وتطبيق الممارسات الخضراء في المؤسسات، واستخدام مصادر طاقة بديلة، حجر الزاوية في تحقيق رؤية المملكة لمستقبل أخضر مزدهر، يسهم في استدامة كوكب الأرض للأجيال القادمة.