الأفكار (العبقرية) في تأسيس الدول عبر التأريخ ربما تُعد قليلة، فالدول غالباً إما تولد من رحم دول سابقة أو تنشأ على أنقاضها، وغالباً تحتاج إلى وقت طويل كي تحدد هويتها وملامحها وأهدافها، وكثيراً ما تكتنف مساراتها تقلبات حادة نتيجة اختلاف أفكار ورؤى ومفاهيم الحكام الذين يتتابعون عليها. نادراً ما نجد دولة عبر التأريخ تمسكت بالثوابت التي قامت عليها، لكنها لم تركن إلى الجمود، بل حققت معادلة متوازنة تعتز بالماضي وتحترمه، وتعمل بإبداع من أجل الحاضر، وتخطط بإتقان لمستقبل تريده لائقاً بمكانتها وممكناتها، تنافس فيه بجدارة، وترنو إلى الصدارة بين الدول المتقدمة.
المملكة العربية السعودية هي أفضل مثال على تلك الأفكار العبقرية، فقد كان إنشاء الدولة السعودية الأولى فكرة غير مسبوقة في ذلك الوقت في محيطنا العربي المشتت آنذاك، فكرة صعبة التحقيق لكنها نبيلة الأهداف، ولهذا كانت ممكنة، ولقيت القبول والالتفاف حولها، واستطاعت إقناع الشتات في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية بالانضواء تحت رايتها. سقطت الدولة الأولى لكن الفكرة لم تسقط فنشأت الدولة السعودية الثانية، ونتيجة ظروف وعوامل خارجية تكالبت عليها وكانت أقوى من قدرتها على الصمود سقطت، لكن الفكرة لم تسقط أيضاً، فقد انتقلت جيناتها إلى شاب شجاع طموح مؤمن بحتمية استعادة وإحياء الدولة من جديد، فقرر الاستعانة بالله وخوض عباب المخاطر والأهوال مع قلة من الرجال المؤمنين بعدالة مطلبه وحقه التأريخي، وبدأ الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مشواره الطويل الصعب الذي انتهى بتأسيس المملكة العربية السعودية التي أصبحت الآن ملء سمع وبصر العالم. لقد حقق ما يمكن وصفه بالمعجزة، والمعجزات لا تتحقق جزافاً، وإنما بعدالة الهدف وسموه، والإصرار على تحقيقه، وذلك ما يجلب العون والتوفيق من الله لعلمه بأن في ذلك خير البلاد والعباد.
هناك دول تتغير ودول تتطور، والتغيير ليس بالضرورة للأفضل، بينما التطوير هو النهج الذي يضمن الوصول للأفضل، توحدت مناطق المملكة وتأسست المملكة العربية السعودية خلال ظروف إقليمية ودولية صعبة، لكن الملك عبدالعزيز استطاع إقناع العالم، وقواه المؤثرة على وجه الخصوص، بنموذج دولته الناشئة. استطاع ببراعة فريدة ودهاء نادر أن يجد لها موقعاً في العالم الجديد الذي بدأ يتشكل، وأن يضع ركائز وأسس ومفاهيم تطويرها. كان التطوير المدروس المرحلي المتأني هو سر معادلة الملك عبدالعزيز، لم يكن يتمثل تجربة أي طرف في محيطه العربي لأن تجربته مختلفة تماماً، تأريخياً واجتماعياً وثقافياً، لذلك صمم مشروعه التطويري الشامل لكل الجوانب بطريقة تضمن له النجاح في إطار المعطيات المحيطة به، وعند رحيله -يرحمه الله- كان المسار محدداً وخريطة الطريق واضحة لكيفية المضي بالوطن، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة المدهشة.
عندما تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم قبل عشر سنوات لم يلبث طويلاً حتى فوجئنا بمصطلح جديد اسمه (الرؤية الوطنية 2030)، مشروع جديد ضخم لإعادة صياغة أساليب إدارة الوطن في كل جانب وكل شأن. ومن البديهي أن مشروع الرؤية لم يكن وليد يوم وليلة بل هو ترجمة لخبرة طويلة قضاها الملك سلمان في مؤسسة الحكم، تبلورت في أفكار جديدة وجاهزة للتطبيق، لكنها تحتاج إلى قيادي خلّاق وشجاع وصارم يقوم بتنفيذها، فكان اختيار الشخص المؤهل لهذه المهمة التأريخية، الأمير محمد بن سلمان، ولياً للعهد وقائداً تنفيذياً لها. فوجئنا نحن المواطنين، وفوجئ العالم عندما تم طرح تفاصيل الرؤية التي تريد الخروج بالوطن من دائرة الرتابة والأداء النمطي والإدارة التقليدية إلى معترك الحيوية والديناميكية والأفكار الخلاقة الجريئة والإبداع التنافسي، لتحقيق مستهدفات تشمل كل نواحي الحياة. كان قائد الرؤية يراهن على ممكنات بشرية وطنية في المقام الأول، قادرة على تحقيق مشروع الرؤية، بالإضافة إلى وجود كل العناصر والمقومات التي تضمن لها النجاح، والأهم هو ترحيب المجتمع بها وتماهيه معها، ليصبح شريكاً في نجاحها.
خلال ما مضى من زمن الرؤية حدثت متغيرات هائلة في المملكة على جميع الأصعدة، انطلق مارد الثقة بالقدرة على التغيير الإيجابي ليشمل كل مجال؛ اقتصادياً، تم التخلص من قلق الاعتماد الكلي على النفط كمصدر وحيد للدخل، وتم بناء اقتصاد حيوي شامل متعدد المصادر ليصبح ضمن أكبر الاقتصادات العالمية، والاقتصاد العربي الوحيد ضمن مجموعة دول العشرين، ورغم أهمية هذا الجانب ومحوريته، إلا أن الحياة بكل تفاصيلها ازدهرت في المملكة، اجتماعياً وثقافياً وفكرياً، ونشأ لدينا مصطلح أنيق اسمه «جودة الحياة» تم تفعيله بنجاح ليشمل كل متطلبات وحاجات ورغبات الإنسان المختلفة، في الفن والثقافة والترفيه والسياحة، أصبحت المملكة نقطة جذب عالمية سياحياً واستثمارياً، لا يمر يوم تقريباً دون عقد فعالية كبرى، محلية أو إقليمية أو دولية، تقاطرت الشركات العابرة للقارات كي تجد لها مقرات في الرياض، وبدأ العالم يتحدث عن مشاريع كبرى غير مسبوقة، نيوم، والبحر الأحمر، والقدية، والدرعية، وسلاسل الفنادق العالمية أصبحت تتسابق لإنشاء المزيد من فروعها لاستيعاب الحاجة المتزايدة للسواح من الخارج والداخل، والزوار والمشاركين في الفعاليات المختلفة، وتغير نمط الحياة كلياً بالاعتماد على التقنيات الحديثة، أصبحنا نتحدث عن حكومة إلكترونية حقيقية وخدمات يتم إنجازها من خلال الهواتف الذكية، وتصدرت المملكة كثيراً من المؤشرات في الخدمات المعتمدة على التقنية والذكاء الاصطناعي. صرنا نتحدث عن الطاقة النظيفة ومبادرة المملكة الخضراء، وغيرها من المبادرات التي تبنتها المملكة إقليمياً وعالمياً. حدث حراك تحديثي ضخم في قطاعات التعليم والصحة والصناعة والزراعة والنقل والخدمات اللوجستية، وتم تفعيل كل الميزات النوعية التي تتمتع بها المملكة.
ورغم الانشغال بالشأن الداخلي فإن المملكة حرصت على تفعيل دورها الذي هيأته لها مكانتها السياسية في حل النزاعات وتهدئة الاضطرابات والتوصل إلى توافقات في كثير من الملفات الإقليمية المعقدة، بل وحتى الدولية، استناداً إلى الثقة في حيادها وقدرتها على إدارة تلك الملفات بكفاءة ونزاهة، وبذلك أصبحت لاعباً رئيساً مؤثراً في السياسات الدولية، تنطلق في ذلك من مبادئها الثابتة التي تهدف الى إحلال السلام واستتباب الأمن وتنمية ورخاء الشعوب.
لقد تمكنت المملكة خلال هذه الفترة القصيرة في عمر الأمم من تحقيق إنجازات ضخمة، وأنجزت كثيراً من مستهدفات الرؤية قبل مواعيدها، رغم الظروف المتقلبة التي تعتري العالم، وهنا نشير إلى حجر الزاوية في كل ذلك، وهو الحكم الرشيد والإدارة الحكيمة وحسن استثمار الموارد والإمكانات، وإطلاق كل القوى الكامنة لدى الشعب السعودي. لقد أصبح النموذج السعودي في التنمية الشاملة المستدامة والتطوير والتحديث المستمر، نموذجاً استثنائياً يحظى بإعجاب وتقدير العالم أجمع.