مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

جهود المملكة العربية السعودية في الحفاظ على تراثها الأثري

تقوم المملكة العربية السعودية منذ عدة سنوات بتنفيذ إستراتيجية متكاملة للنهوض بالقطاع الأثري والتراث الثقافي، وذلك كجزء من رؤية 2030. وهذه شهادتي أقدمها من خلال متابعتي القريبة طوال الأعوام الماضية لكيفية إدارة التراث الأثري والثقافي في المملكة. لقد بدأت إستراتيجية النهوض بتراث المملكة عن طريق تطوير ودعم الهيكل المؤسسي والتشريعي فكان إنشاء هيئة التراث في عام 2020 تحت مظلة وزارة الثقافة بهدف توحيد جهود إدارة التراث المادي الممثل في الآثار، والتراث العمراني والتراث اللامادي الممثل في الحرف والصناعات اليدوية، إضافة إلى توثيق التقاليد والعادات القديمة. واستمرت جهود تعزيز الهيكل التشريعي لإدارة التراث بتطوير الأنظمة المرتبطة بالتراث: مثل نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني والذي وضع حيز التنفيذ في عام 2014 والهدف منه هو تحديد معايير تسجيل المواقع وحمايتها.
وضعت المملكة العربية السعودية برامج عملاقة لصيانة وترميم التراث الأثري، ويعد مشروعا الدرعية القديمة وإحياء جدة التاريخية أنموذجاً للتحدي والإصرار والنجاح بسبب تطبيق المعايير العلمية. كان الهدف من تلك المشروعات العملاقة هو إحياء المدن الأثرية وليس فقط ترميمها وصيانتها، وهو بالطبع ضرورة أولية لإعادة الإحياء. انطلق مشروع إحياء جدة التاريخية في عام 2021 برعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. والمعروف أن جدة التاريخية مدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2014، وتضم المدينة أكثر من 600 مبنى تراثي و36 مسجداً تاريخياً بالإضافة إلى الأسواق التراثية القديمة. وفي البداية وضعت دراسة علمية كاملة للمشروع تهدف إلى إدخال جدة التاريخية في برنامج الاستدامة الثقافية والاقتصادية من خلال تحقيق التراث والمواقع التاريخية لمصدر دخل من خلال الاستثمار في المشروعات السياحية. كذلك يهدف المشروع إلى إنشاء واجهة بحرية بطول خمسة كيلو مترات ومساحات خضراء تغطي على الأقل 15٪ من مساحة المدينة بغرض تحسين الوضع البيئي والحضري لجدة التاريخية. ويتم المشروع باستخدام مواد بناء وترميم تقليدية مثل التي كانت مستخدمة في بناء المدينة التاريخية من أحجار وأخشاب وجبس. وذلك اعتماداً على الصور والوثائق التاريخية الموجودة والتي تم توثيقها قبل بدء المشروع بهدف الحفاظ على الهوية التراثية.
ومنذ انطلاق مشروع إحياء جدة التاريخية وإلى يومنا هذا حقق المشروع الكثير من الإنجازات منها إنقاذ ما يقارب من 240 مبنى كان مهدداً بالانهيار، وتجهيز نحو 35 مبنى كمقرات ثقافية وفنادق تاريخية مثل منزل جوخدار ومنزل الريس، كما تم الكشف خلال أعمال الترميم عن أكثر من 25 ألف أثر يعود أقدمها للقرن الأول الهجري منها ساريتان من خشب الأبنوس في مسجد عثمان بن عفان، والكثير من الأواني الخزفية الإسلامية بل والصينية التي تعود إلى أسرة مينغ النادرة. سيستمر مشروع إعادة إحياء جدة التاريخية إلى عام 2036، لكنه بدأ بالفعل يؤتي ثماره، ويؤكد على نجاحه أنه تم بالمدينة القديمة استقبال مهرجان السينما لكي يتيح الفرصة لنجوم العالم لمشاهدة ما يحدث في واحدة من أجمل المدن التاريخية في العالم.
ومن مشروعات الترميم العملاقة بالسعودية مبادرة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لترميم وتأهيل 130 مسجداً تاريخياً، مع الحفاظ على طرازها المعماري المميز. وينعكس اهتمام المملكة بتكوين فريق من المرممين الوطنيين المؤهلين للحفاظ على التراث الأثري للمملكة إنشاء منصة خاصة (بناء) لتوثيق خبراء الترميم وتدريبهم على استخدام المواد التقليدية.
تعد جدة التاريخية واحدة من ثمانية مواقع مسجلة في قائمة اليونسكو للتراث الإنساني، وهي مدينة الحجر المعروفة بـ(مدائن صالح) -أشهر المواقع الأثرية بالمملكة- وتم تسجيلها في عام 2008، وحي الطريف بمدينة الدرعية التاريخية في عام 2010، وتمثل أول عاصمة للدولة السعودية الأولى وأنموذجاً ممتازاً لما يعرف بالعمارة الطينية النجدية، وتضم قصر سلوى، ومسجد الإمام محمد بن سعود. أما الفنون الصخرية في منطقة حائل التي تضم مواقع جبة والشويمس، فقد تم تسجيلها عام 2015، أي في العام التالي على تسجيل مدينة جدة التاريخية. كذلك تم تسجيل واحة الأحساء في عام 2018، وتضم أكبر واحة نخيل محاطة بالرمال في العالم، وتشمل عيوناً طبيعية وقلاعاً تاريخية مثل قصر إبراهيم. وبعد واحة الأحساء نجحت المملكة في تسجيل منطقة حمى الثقافية بنجران في قائمة التراث العالمي سنة 2021 وتضم أكثر من 550 نقشاً صخرياً تعود إلى ما قبل التاريخ وحتى العصور التاريخية ومنها نقوش ثمودية ونبطية. كذلك تم تسجيل محمية عروق بني معارض في 2023 والمنظر الثقافي لمنطقة الفاو الأثرية - عاصمة مملكة كندة - في عام 2024. وبالإضافة إلى المواقع المسجلة، تسعى المملكة إلى ضم عشرة مواقع جديدة وتسجيلها تراثاً إنسانياً عالمياً، وقد نجحت بالفعل في وضع بعض المواقع فيما يعرف بالقائمة المؤقتة لليونسكو ومنها قرية ذي عين بمنطقة الباحة، وطرق الحج التاريخية مثل درب زبيدة من الكوفة إلى مكة المكرمة، وطريق الحج الشامي والمصري.
ولعل من المهم هنا هو التأكيد على أن تسجيل أي موقع في قائمة التراث العالمي ليس بالعمل السهل وإنما هو بالفعل عمل مضن يتطلب إعداد ملف علمي قوي عن الموقع المستهدف تسجيله والأسباب التي تستند إليها الدولة صاحبة الموقع لتسجيله تراثاً إنسانياً عالمياً، كذلك تقديم ما تم من أعمال دراسة وحفظ وصيانة للموقع لحمايته من الأخطار سواء الطبيعية كالكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية وكذلك العوامل البشرية. والخلاصة أن مجهودات المملكة واضحة من خلال عدد المواقع التي تم تسجيلها في السنوات الأخيرة وتلك المستهدف نقلها من القائمة المؤقتة إلى القائمة الدائمة.
هذا النجاح هو أحد نتائج تطبيق سياسات إدارة المواقع الأثرية وحمايتها حيث أصبحت المملكة بالفعل تنتهج أقوى برامج إدارة المواقع الأثرية في العالم بالشراكة مع العديد من الجهات العلمية سواء الوطنية أو العالمية ولعله يكفي هنا الإشارة إلى برنامج الإدارة والحماية المطبق في العلا ومواقعها الأثرية والتاريخية والتي يوليها الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة اهتماماً خاصاً، كما تعد فرنسا من خلال الوكالة الفرنسية الشريك الرئيس في رحلة التنمية لمحافظة العلا من خلال اتفاقية عام 2018 التي تم توقيعها بحضور كل من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتهدف الاتفاقية إلى تحويل العلا إلى وجهة سياحية ومركز ثقافي عالمي. وكان من ثمار تطبيق إدارة المواقع الأثرية إنشاء مراكز الزوار المتخصصة في مواقع مثل الأخدود بنجران، حصن فيد في حائل، وقرية ذي عين بالباحة، وذلك لتعزيز السياحة الثقافية وتعظيم الاستفادة من زيارة المواقع الأثرية ونشر برامج التوعية والحماية عن طريق مراكز الزوار.
استطاعت المملكة العربية السعودية تحقيق العديد من الاكتشافات الأثرية الكبرى سواء عن طريق البعثات الأثرية السعودية التابعة لهيئة التراث أو التابعة للجامعات ومراكز البحث الوطنية أو البعثات السعودية المشتركة مع الجامعات ومراكز البحث العالمية في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وغيرها. وذلك مع تطلع المملكة إلى تعظيم التعاون الدولي ونقل الخبرات عن طريق الشراكة مع جامعات ومراكز بحثية من ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وغيرها. ومن أهم تلك الاكتشافات الأثرية التي اهتم بها العالم: الكشف عن أقدم آثار بشرية في الجزيرة العربية، حيث تم اكتشاف آثار أقدام بشرية وفيلة في تبوك عام 2020، يعود تاريخها إلى 120 ألف سنة. كذلك الكشف عن معابد ونقوش تعبدية ومستوطنات بشرية تعود للعصر الحجري في منطقة الفاو - عاصمة مملكة كندة. والكشف عن مناطق سكنية وصناعية وأدوات حجرية تعود لفترات تاريخية مختلفة في موقع العبلاء بعسير. ونظراً لثراء المملكة بما يعرف بالفنون والنقوش الصخرية أطلقت هيئة التراث مشروعاً لحصر وتحليل 2382 موقعاً للنقوش الصخرية في حائل وغيرها، وذلك بهدف توثيق النقوش الصخرية وحمايتها. وفي جزر فرسان نجحت البعثة السعودية الفرنسية في العثور على العديد من الآثار الغارقة، وتمتلك المملكة الآن مركزاً متخصصاً للكشف عن الآثار الغارقة أو التراث المغمور تحت الماء الذي يؤهلها للكشف عن كنوزها الأثرية الغارقة بالقرب من سواحل المملكة على البحر الأحمر والخليج العربي.
وتعد حماية التراث السعودي غير المادي وتنمية الحرف التراثية أحد محاور إستراتيجية المملكة للحفاظ على الهوية الوطنية، ولذلك رأينا برامج مهمة مثل برنامج «بارع» الذي يهدف لتدريب الحرفيين وتطوير منتجاتهم، مع تأهيل 146 حرفياً لمستويات عالمية. وساهم الدعم الكبير للحرفيين على الحفاظ على موروث ثقافي من الاندثار. هذا إلى جانب العديد من المبادرات التي تهدف إلى الحفاظ على العادات والتقاليد الموروثة حفاظاً على الهوية السعودية ومن ضمن تلك المبادرات توثيق الألعاب الشعبية كجزء من الذاكرة الجمعية.
ونظراً لإدراك المملكة العربية السعودية أن قضية الحفاظ على التراث لا تعني فقط مشاركة كافة مؤسسات المملكة وإنما يجب أن تتم بمشاركة المجتمع بكل فئاته العمرية، ولذلك رأينا انطلاق العديد من المبادرات التي تهدف إلى التوعية والمشاركة المجتمعية، ومنها مبادرة (المكتشف الصغير) التي تستهدف الأطفال ومن هم في سن المراهقة لرفع الوعي الأثري عبر زيارات ميدانية للمواقع الأثرية وأنشطة تنقيب. كذلك قامت المملكة بتطوير المناهج الأثرية في الجامعات السعودية، وذلك لإعداد جيل من الأثريين السعوديين المؤهلين لإدارة تراثها. مع دعم برامج التدريب الميداني بالتعاون مع البعثات الدولية لنقل الخبرات سواء في مجال التنقيب أو الترميم. وكذلك إطلاق منصة (أبدع) لدعم الممارسين الثقافيين وإصدار التراخيص للمهتمين بالتراث وقضايا الحفاظ على الإرث الأثري والثقافي للمملكة.
وأخيراً وليس آخراً نجحت المملكة العربية السعودية في الدعاية والتعريف بما تملكه من تراث أثري وذلك عن طريق الكثير من المحاور التي كان من أهمها إقامة المعارض الدولية مثل معرض (طرق التجارة في الجزيرة العربية) الذي زار العديد من دول العالم لعرض قطع أثرية لا تقدر بثمن لإبراز دور السعودية بوصفها ملتقى لحضارات العالم القديم.
لقد نجحت السعودية في جعل تراثها الأثري رافداً اقتصادياً وثقافياً، من خلال إستراتيجية متكاملة تجمع بين الحفظ العلمي للتراث من خلال التسجيل والتوثيق، وحماية وترميم الآثار من جهة، ومن ناحية أخرى تحقيق التنمية المستدامة عن طريق تعظيم دور السياحة الثقافية، وتمكين أصحاب الحرف اليدوية والتراثية. بالفعل قطعت المملكة العربية شوطاً كبيراً في تنفيذ إستراتيجيتها التي وضعتها في مصاف الدول المهتمة بالحفاظ على التراث الأثري واعتباره جزءاً أصيلاً من الهوية الوطنية التي يجب الحفاظ عليها.

ذو صلة