منذ تأسيسها قبل ثلاثة قرون، عاشت المملكة مخاضاً، حَفِلَ، ليس بالتحديات فقط، بل بالمُهددات والمخاطر، تمكنت السعودية من تجاوزها بتوفيق الله أولاً ثم بالعزم والإرادة والإدارة، أما التحدي الكبير فكان دائماً العمل لغد أفضل. حتى غدت السعودية في مقدمة المشهد عربياً وإقليمياً وعالمياً.
قبل أعوام قليلة، دخلت المملكة تحدياً جديداً مع الذات، حينما أعلنت (الرؤية السعودية 2030) مستندة إلى ثلاث ركائز هي: العمق العربي والإسلامي، وقوة استثمارية رائدة، ومحور ربط للقارات الثلاث. وتقوم (الرؤية) على ثلاثة محاور، هي: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح، ولكل من هذه المحاور منطلقات أكثر تفصيلاً، فمثلاً محور (اقتصاد مزدهر) يتطلع لتحقيق: اقتصاد فرصه مثمرة، واستثماره فاعل، وتنافسيته جاذبة، وموقعه مستغل.
وإذا تابعنا مع محور (اقتصاد مزدهر) وتطلعاته، نجد أنها تقوم على توجهات محددة، بحيث إن كل تطلع يحقق توجهات محددة، وبالتالي يصل لتحقيق هدف من أهداف الرؤية. فمثلاً عند الحديث عن (الفرص المثمرة)، نجد أن لذلك أربع توجهات، وهي: دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، استقطاب الكفاءات، التعليم من أجل العمل، وتنمية الفرص، وهذه مجتمعة تؤدي لتحقيق هدف محوري من أهداف (الرؤية السعودية 2030) وهي تخفيض معدل البطالة من 11.6 بالمئة إلى 7 بالمئة. ونجد بعد مضي سبع سنوات أن وتيرة الإنجاز تدور، فقد تجاوزت 4 مؤشرات من مؤشرات الرؤية للمستوى الأول والثاني مستهدف 2030، وتجاوز 24 مؤشراً المستهدف المرحلي للرؤية.
والإنجاز لم يترك للصدفة، بل تدور عجلته بمحركات هي برامج تحقيق الرؤية، فمثلاً كيف سنرفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة إلى 10 ترليون ريال بحلول العام 2030، آخذاً في الاعتبار أنه هدف رئيس من أهداف الرؤية، وله ارتباط مباشر في تحقيق اقتصاد مزدهر للمملكة؟ نجد أن الإجابة تأتي من خلال عرض توجهات محددة تتصل بتعظيم القدرة الاستثمارية، وإطلاق قطاعات واعدة، وتخصيص الخدمات الحكومية. وعلى صلة وثيقة بالاستثمار الفاعل، وتحسين مناخ الاستثمار، وفي هذا السياق بينت وثيقة الرؤية المفصلة، أن تحقيق اقتصاد مزدهر يمر عبر بوابات إحداها التنافسية الجاذبة، وهذه تتحقق من خلال توجهات أربعة: تحسين بيئة الأعمال، فهي غير منافسة حالياً أخذاً بتطلعات الرؤية ورغبتها في رفع نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 30 بالمئة، وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 5.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد ثبت عزم المملكة على استنهاض قوتها الاستثمارية الكامنة من خلال ما أعلنه سمو ولي العهد من أن الضخ الاستثماري حتى العام 2030 سيصل إلى 27 ترليون ريال، موزعةً: 3 ترليون من صندوق الاستثمارات العامة، 5 ترليون من برنامج (شريك) للشركات الكبرى، 4 ترليون تجلبها تحقيق الإستراتيجية الوطنية للاستثمار، و10 ترليون إنفاق حكومي، 5 ترليون إنفاق استهلاكي. وبالقطع فاستقطاب الاستثمار يتطلب نمواً اقتصادياً وتحسن في بيئة الاستثمار، وفي هذا السياق فقد حقق الاقتصاد السعودي نمواً 8.7 بالمئة خلال العام 2022، كما أن التصنيف السيادي من قبل وكالات التصنيف العالمية الثلاث (موديز، فتش، وستاندر أند بور) مرتفعة وذات مستوى استثماري، وهي على التوالي: A+، A+، A.
ما جلبته الرؤية للمشهد جملة أمور، من الجانب الاقتصادي يأتي في مقدمتها التحول من اقتصاد يعتمد على الريع إلى اقتصاد متنوع يعتمد على الإنتاج وتوليد القيمة. ولابد من الإقرار أن الاستغناء عن إيرادات النفط ليس أمراً سهلاً بل يتطلب جهداً منسقاً شاملاً ومزعزعاً كالذي تسعى السعودية بكل صرامة لتنفيذه من خلال رؤية 2030، وهدف هذا الجهد أن تساهم الإيرادات غير النفطية الناتجة عن أنشطة اقتصادية مولدة للقيمة المضافة بالحمل الثقيل لاستدامة إيرادات الخزانة العامة.
التوجه الإستراتيجي واضح: الانتقال من اعتماد الخزانة العامة على الريع (إيرادات النفط) إلى اعتمادها على النشاط الاقتصادي المُوَلِد للقيمة اقتصادياً وللإيرادات للخزانة العامة (الرسوم والضرائب). هذا مطلب ضخم لاقتصاد أمضى عقوداً تعتمد خزانته العامة على إيرادات النفط واستخدمت أساساً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكومة تقود والقطاع الخاص يتبع ويمارس دوراً محدود المخاطر وهو أن يزود -عبر عقود حكومية وإنفاقها العام- ما تحتاجه البلاد من سلع وخدمات. ولماذا الزهد في الاعتماد على إيرادات النفط؟ لسببين: التذبذب، وأن تركيز الاهتمام على النفط وكأنه المنقذ الوحيد يفوت فرصاً مهمة في توليد القيمة من النفط الخام عوضاً عن تصديره خاماً ومن تنويع القاعدة الاقتصادية وبالتالي توسيع قاعدة الضرائب والرسوم، ويجلب أخطاراً محدقة نتيجة لبرامج تحول الطاقة.
أحد التحولات الكبيرة التي أحدثتها رؤية السعودية 2030 منذ اليوم الأول لإطلاقها هو مواجهة صريحة لحقيقة أنه ليس بالإمكان الاعتماد على النفط. هي حقيقة معروفة لكن لم يسبق مواجهتها بهذه الصرامة، فالخطط الخمسية التي دأبت السعودية على إصدارها تباعاً منذ بداية السبعينات الميلادية كانت تهدف إلى تنويع الاقتصاد. ما أضافته الرؤية هي أن وضعت المجتمع وجهاً لوجه أمام هذه الحقيقة، وذلك من خلال إطلاق برنامج تحول وبرامج رديفة لتحقيق تلك الرؤية، حتى لا تبقى أملاً لا يتحقق. اقتصادياً برامج تحقيق الرؤية تعاملت مع المفاصل الاجتماعية-الاقتصادية التي تهم المجتمع في نطاقاته الأوسع محلياً وإقليمياً وعالمياً، كما أنها تعاملت مع المخاطر المالية المتربصة والتي لم تبرح التربص مع كل صعود وهبوط لسعر برميل النفط وبالتالي تأرجح إيراداته.
ولعل الفارق الجوهري الأهم -في ظني- الذي أحدثته الرؤية هو الالتزام، الالتزام بتحقيق المستهدفات بتوفير الموارد والتمكين، ففي السابق كان تحقيق المستهدفات يقوم حقيقة على شرط هو توفر الإيرادات، التي كان جلها إيرادات نفطية. أما في حقبة رؤية المملكة 2030 فأصبحت محفظة توفير الموارد أكثر تنوعاً: الإيرادات النفطية، الإيرادات غير النفطية وتنميتها من خلال الضرائب والرسوم، تنمية العائد على استثمارات الدولة، توظيف الفسحة المالية التي تمتلكها الخزانة العامة باعتبارها مورداً يمكنها من الاقتراض عالمياً وبشروط منافسة، ضبط ميزان المدفوعات من خلال السعي حثيثاً لتنمية الصادرات غير النفطية السلعية والخدمية وفتح الاقتصاد على مصارعه لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية.