صدرت روايتي الأولى (المسار) باللغة الإنجليزية عبر دار نشر إنجليزية في لندن، جهاز تحريرها شاركني في إعادة صياغتها وبنائها الفني وتصاعد حدثها، تحمل اسمي المستعار نعيمة الباشق.
عدت لبناء حياتي المثقلة بهم لم تتضح ملامحه، وإن تشعب كما شوارع وطرق مدينة الرياض، وتنافر غير مرئي بين أفراد الأسرة وبعض الأقارب بعد أشهر ستة على صعود روح والدي رجل الأعمال الواثق من خطواته وهو يحقق أهدافه الواحد تلو الآخر.
أشركني والدي في بعض مشاريع شركته مترجمة ومشرفة بعد تخرجي من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، والتحاقي بوظيفة حكومية في إحدى الإدارات الحكومية بالرياض، ومنحني نسبة من الأرباح حافزاً لتطوير قدراتي وصقل موهبتي.
تزوجت أحد موظفي الشركة المقربين من والدي والذي يحمل الجواز المصري وشعرت بغضب والدتي المنشغلة بأناقتها وسوالف صديقاتها والعناية بجسدها، وقلق أشقائي الثلاثة وشقيقتي المقعدة، وحصل زوجي على الجنسية السعودية بعد ميلاد الابن ماجد، والابنة ماجدة؛ ماجد في الرابعة من العمر، وماجدة في الخامسة، بدعم من والدي وعلاقاته الخاصة.
غرف وممرات شقة لندن التي غدت خلوتي الأثيرة تناثرت أوراق المسار على أرضها، وتردد جدرانها حواري مع السكرتارية التي عينتها الدار الناشرة، ودولاب الكتب، الذي يشاركني غرفة النوم، يحتفظ بالفصول والأجزاء المحذوفة.
غادرت الرياض بعد عشاء في استراحة والدي بطريق الثمامة، واستقالة من الوظيفة الحكومية بعد عشر سنوات لا أدري كيف أصفها. واتفق الورثة على أن تحمل الاستراحة اسم والدي وقفاً يستفيد منه الجميع. وحصلت على موافقة الجميع أن تكون شقة لندن جزءاً من نصيبي في الإرث، وتحويل الشركة إلى مساهمة مغلقة باسم أمي وأشقائي الثلاثة وأنا وشقيقتي، وترشيح عماد أكبر أبناء الأسرة مديراً بصلاحيات كاملة وأنا مستشارة ومترجمة.
رواية المسار تحمل بعض فصول حياتي طالبة في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وممارسات السائق الهندي الذي يوصلنا أنا وأشقائي للمدرسة، وكنت آخر من ينزل من السيارة، ليسافر بعد سنوات أربع، وقد التحقت بالجامعة وأقود سيارتي التي يرهقني إيجاد موقف لها بقرب الكلية التي أدرس فيها.
أيضاً أحد فصول الرواية يحمل تفاصيل العلاقة المتطورة مع زوجي زميل العمل الذي يعرف أني الابنة المقربة من مالك الشركة، وقد طلبت منه الطلاق بعد وفاة والدي فحقق رغبتي وتخلى عن كل شيء يربطنا أسرياً وانتقل إلى مدينة الظهران، التي احتضنت أكثر مشاريع حكومية نفذتها شركة والدي، مؤسساً لشركته الخاصة.
في لقاء عشاء في بهو مكتبة تصدرت فيه روايتي قائمة المبيعات جاء أحد فريق التحرير الذي شارك بتنفيذ صياغة غلاف الرواية وطباعتها وبرفقته آخر، ملامحه مألوفة وخط الشيب فوديه، وقفت مرحبة ولما التقت نظراتنا ضغط على كفي، معها شعرت بقشعريرة جسدي.
قال هامساً: لم تغيرك الأيام.
قلت: من أنت؟!
قرب شفتيه من أذني: السائق.. وابتعد مغادراً.
نطق صوت في داخلي هتفت باسمه منادية وتحركت ملاحقة تلفت يميناً ويساراً باحثة متوقفة على رصيف الشارع، هناك سيارات وهناك مشاة فرادى وأزواج وجماعات، تغمرهم أشعة ملونة، تنبهت على جلجلة ضحكات صاخبة وفي تلك اللحظة تجلت جملة كانت أمي ترددها: (قد يفسد المرء حياته جراء كلمة واحدة).
وعدت للأجزاء والفصول المحذوفة تذكرت أنها بقية الذات جسد وروح أتصارع عبرها مع كوابيس تقتحم اللحظة التي أعيش هاجسها كرؤيا صادمة أنتقل من خلالها من حالة إلى حالة يختلط الحلم بالواقع.
زرت مقر دار النشر مناقشة ترتيب بعض الأوراق لمشروع رواية ثانية، متذكرة السائق، واصفة زائر المكتبة ليصرخ أحدهم: (إنه أبي المتوفى من عشر سنوات).