مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

ما أبعد المسافة

بعد أن شعرت بثقله قررت أن أخلع عني جسدي.
فالجسد كتلة تربطنا بالأرض وعذاباته غير متناهية.
ذهبت لحكيم الروح.
قال: هناك في بحيرة خلف غابات أشجارها من نور في جزيرة لا يلبسها الظلام، وتسكنها طيور بيضاء وتزخرف سماءها نجوم بكل الألوان ستجد شلالاً يتدفق من أعلى جبل ويكون نهراً يجري بلا انقطاع هناك اخلع جسدك عنك.
ستأتيك النسور حاملات شرايين حمراء بمناقيرها وسترى كهلاً ينسج من الأوردة البشرية حبالاً ليتسلق فوق قمة الجبل.
هناك في ذلك الوادي اخلع جسدك واغتسل من أدرانه.
عندما اقتربت من النهر شعرت بلذة الماء تسري على جسدي.
كانت تجلس على حافة النهر حورية جسدها من زمرد، تفوح من صدرها روائح الفل والريحان. تداعب بأصابعها جلد الماء وتسري قشعريرة ملامستها لجسدي شعرت برعشته لكن ذكرتني روحي أني في نهر يغتسل فيه كل من يريد أن يخلع جسده ويحلق بروحه لينجو من الغرق.
حينها سمعت صرخة أقوى من الرعد وكزئير مجموعة من الأسود تقول:
اخلع عنك جسدك أنت بالنهر المقدس.
كان جسدي يرتعش للحورية. بدأ زلزال التردد يهزني بين جسدي الذي سأخلعه وهمسات النور من روحي.
رأيت في السماء طيوراً سوداء بأجنحة بيضاء ومناقيرها حادة كالسكاكين تقطع بقايا الأجساد وترميها في الوادي ليقتات منها صغارها.
كان الوادي مزروعاً من شجر زقوم، تشتعل فيه نارٌ من حميم فيها من كل الوحوش الكاسرات والضباع الضائعات الجائعات وأجساد معلقة بأسياخ من نار ونساء يقرضن أجسادهن المكتوية.
كان في الوادي رجال يقطعون ألسنتهم ويذيبونها في ماء آسن.
بينما كنت أحاول الهرب من جسدي وأرميه فاحت رائحة الجلود المكتوية بالنار وكان بقايا جمرها يقترب مني وأسمع لها فحيحاً كفحيح الثعابين استوقفتني روحي متألمة لترك جسدي وحيداً.
قالت:
- ليس هنا العذاب!
قلت لها: وليس هنا الراحة!
أشعر أنني مشرد بين جبال الروح ووديان الجسد. لا أستطيع أن أصل لقمة الجبال حتى لا تتقطع روحي ولا أهرب في ذلك الوادي وإلا افترستني سباع الشهوة ومزقت جسدي ملذاته.
أين أذهب مني؟! لأجدني وأسكنني أيتها الروح.
ولماذا تخلعني أيها الجسد؟!
بينما كنت أسير تائهاً لأقرب المسافة بيني وبيني وجدت عند النهر رجلاً كهلاً تبدو عليه كل مظاهر الوقار، جسده ذابل كزهرة لم ترتو من ماء المطر، وروحه تنازعه للخروج من عينيه.
توقفت أمامه حائراً.
قلت له:
- دلني على الطريق!
ضحك بصوت مرتفع بانت لثته معدومة الأسنان، وبكلمات هادئة مسكونه بلغة الاطمئنان، قال:
لو عرفت الطريق ستبلغ نقطة الوصول.
مد أصبعه محذراً إياي:
انتبه، فالطرق متشابهة والوصول نفسه قد تظن بأنها نقطة الوصول لكن لن تكون هي.
- احذر آفات الطريق.
ولا تغرنك أشجاره وخضرته الجميلة فقد تضيع، وإن أردت ضمان الوصول اُسلك طريقا صحراوية موحشة ستتعب لكنك ستبلغ نقطة الوصول
قلت له:
أخشى أن أضيع في صحراء ذاتي وتفترسني الصحراء برمالها أو يقتلني العطش
أو يظللني السراب.
لن أجد روحي حينها سيظل جسدي وحيداً مكتوياً بعذاب الصحراء.
اتكأ على عصاه وقبل أن يغادر ألقى علي نظرة حائرة:
إذن ليس أمامك إلا الجبل أو هذا الوادي المليء بالسباع.
- لا تتركني هنا!
دلني على الطريق.
قال لي:
اتبع خطاي إن أردت أن تصل.
بينما كنت أتبعه انكسرت عصاه ووقع في حفرة عميقة. كان آخر ما سمعت صدى صوته.
- اسلك الطريق على ضوء القمر أو ابحث عن نور الشمس لتهتدي للطريق بضيائها.
أصبحت وحيداً محاصراً بجسدي الذي يريد أن يخلعني وروحي التي تريد أن تلبسني صراعاً مريراً وأنا بينهما كتلة من العذاب لا أعرف كيف أسلك الطريق لأبلغ نقطة الوصول. حتى القبور المحشوة بكتل من الأجساد لم أجدها لأدفن فيها جسدي وأرتاح من ألم صراخه، لكن ألم الروح أشد وجعاً.
صرخت بأعلى صوتي:
أين أنا منكما؟!
دلاني على الطريق فالمكان هنا موحش والضياع أتعبني.
ضعت مني وتعبت في البحث عني
بينما كنت أصرخ
انتبهت من نومي على صوت الأذان لصلاة الفجر.

ذو صلة