مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

تغريد البقشي: البياض سحر.. وهو انعكاس لروح شفيفة وأساس لكل الألوان

حوار/ هدى عبدالله: الرياض


من دون النظر إلى توقيعها، يمكن التعرف على أعمالها؛ فالفنانة التشكيلية (تغريد البقشي) ذات أسلوب فني خاص في الشكل والمضمون والسمات الدقيقة الواضحة، ولذلك فقد نجحت في تسخير أدواتها لتعبر عن قضايا اجتماعية وإنسانية. وقد شكلت المرأة في مضامين متعددة أساس لوحات الفنانة البقشي التي نقدمها من خلال الحوار التالي:
ربما كان معرضك الخاص الأول (ومض الألوان) الذي أقمته العام 2001 الانطلاقة الفنية الحقيقية لأعمالك التشكيلية، وثمة محاولات أخرى حصلت مع تشجيع العائلة وسفرك إلى دمشق؛ حدثينا عنها.
- عندما سافرت إلى دمشق كنت أريد حضور مجموعة من الورش والدورات لتطوير أسلوبي الفني والدراسة الأكاديمية، وتلك المرحلة كانت مهمة للغاية، ومن بعدها أقمت معرضي الشخصي الأول في عام 2001م، وكان زاخراً بالأفكار المتنوعة. كانت البداية صعبة جداً، فقد كانت تلك المرحلة غير مواتية للفنون وللفنان الذي يبحث عن ذاته وإمكاناته وكيانه الفني. كما أن نظرة المجتمع كانت مختلفة عما هي عليه الآن، في تلك المرحلة المليئة بالمعوقات، كان التحدي الداخلي والرغبة الفنية القوية أساس عطائي إلى هذا اليوم.
وأنت تجمعين بين العمل الأكاديمي والعمل الإبداعي في المسار الفني؛ ما مدى تأثير أحدهما على الآخر؟ أم أن الفنان بحاجة إلى التفرغ لفنّه وإبداعه؟
- شخصياً أحتاج إلى التفرغ بشكل كبير، ومع ذلك لا يمنعني الانشغال سواء العائلي أو المجتمعي أو الوظيفي من ممارسة الإبداع بشكل عام، لأن الفن لصيق بالروح، فالإنسان كلما وجد وسيلة ليُظهر ما بداخله ويحمل الرسائل وينشرها بالأسلوب الأفضل الذي يمثل شخصيته والذي يشبهه؛ فإن هذا يعدّ نجاحاً. ورغم ذلك فمازلت أطالب بالتفرغ الوظيفي للفنان والمبدع، وأتمنى أن تكون هناك منحة للفنان كي تخدمه على المستوى القريب والبعيد، إبداعياً ووجودياً.
للمرأة حضور قوي في لوحاتك، ما الرسالة التي أردتِ إيصالها من خلال هذا الحضور؟
أنا أهتم بالإنسان بشكل عام، وقد شغلني بوجوده ومشاعره، والمرأة بشكل خاص، فهي كائن يحمل الإحساس وكل النكهات التي تمثل الشخصية الفريدة، ومن خلال رسمها أعبّر عن نفسي وعن المرأة السعودية بشكل عام، فالمسؤوليات كثيرة على عاتقها، فنجدها أماً وعاملة ومسؤولة عن تربية جيل، وفي الوقت نفسه تقوم بإنجاز أعمالها الشخصية أو الإبداعية. ولأبيّن مدى تقديري للمرأة السعودية فأنا أمثّلها بالشكل الذي يبرزها بتشريف وحضور قوي، وهي لفتة بأن المرأة السعودية قادرة ومنجزة وتشرفنا في كل مكان وزمان.
ذكرتِ أكثر من مرة بأنك تؤثرين اللون الأبيض، وبأن (كل شيء بدأ من البياض)؛ ألا يتطلب التشكيل بأن يكون الفنان في تعامله مع الألوان حيادياً؟
- أعتقد أن في البياض سحراً، فأي شيء أبيض هو انعكاس لروح شفيفة، وهو أساس لكل الألوان، وأظن بأن البياض هو وصف مجازي للنقاء والأشياء التي لم تشبها شائبة ولم تتلوث بعد، قلّما نجد هذا البياض من حولنا، وإذا لم يكن الجمال بهذا الشكل فاتناً؛ فكيف سيكون إذن؟! هو ملوّن بالتأكيد، ولكن من أين استمدت الألوان رونقها لولا هذا البياض الأساسي. لا أتفق مع القول بأنه على الفنان أن يكون محايداً في استقباله للألوان، فأنا أعشق جميع الألوان، لأنها تخدمني، وأشعر بأنها قد وُجِدَت من أجلي. فالفنان هو البستاني في حديقة الألوان، إذ يجد فيها وجوده وحياته كلها.
تمتلكين خطاً تشكيلياً خاصاً بكِ، فمن حيث الشكل تظهر خطوطك مفعمة بالألوان وعفوية، ومن حيث المضمون تبرز دواخل الإنسان بأحاسيسه المختلفة؛ حدثينا عن تمازج اللوحة بالنسبة لكِ.
- من الضروري أن يكون للفنان خط خاص به، وكفنانة فطرية ترسم بتلقائية كل الأفكار التي تأتيها، ألقي بنفسي على (الكنفاس) أو المساحة البيضاء لأتجلى في عمل فني أصيل، منذ بداياتي قررت أن يكون لي أسلوب فني واضح، وأن يكون لدي خط ومنهج. أما طريقتي في الرسم والتعبير فهي عفوية، ولكنها مقصودة في الأفكار وواعية في الخطوات وفي الأهداف، وكذلك التعبير عن قضايا المجتمع والتعبير بالأسئلة: ماذا يحدث؟ ولماذا؟ وأين؟ فكل الأسئلة تكون لها إجابات داخل الأعمال الفنية، ودائماً ما تكون الفكرة مجتمعية كي توثق ما يمر بنا من تاريخ وأحداث، وأعتقد أن هذا ضروري جداً، لأن من واجب الفنان أن يوثّق ما يحدث في المجتمع من قضايا ووقفات وقصص، لأن الفن هو مرآة تعكس حضارة معينة وفترة زمنية معينة، فالفن يقيس ما يحدث الآن، وهذا من الأمور المهمة جداً لأنه بعد مئة عام أو أكثر ستكون الأعمال الخالدة موجودة كي تحكي عن فترة زمنية، ومدرستي في هذا الإطار يُطلق عليها المدرسة التغريدية، لأنه بمجرد مشاهدة لوحاتي يُعرف أنها لوحات تغريد البقشي حتى دون النظر إلى التوقيع، وهذا ما حرصت عليه منذ بداياتي، بمعنى أنني حرصت على أن أتميّز بأسلوب خاص يمثل أعمالي.
نالت إحدى لوحاتك اهتماماً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث قامت النجمة العالمية ريهانا، وإيفانكا ترامب ابنة ومستشارة الرئيس الأمريكي السابق، بالتغريد بها، للتهنئة بقرار قيادة السعوديات للسيارة، ما قصة تلك اللوحة؟
- على الفنان أن يعبر عن كل شيء يخص المجتمع، وقد كنت ممن طالبن بقيادة المرأة للسيارة، وبدأت الرسم في هذا الموضوع منذ عام 2010م، كنت أصرح بأننا نحتاج إلى قيادة السيارة؛ لأن هناك واجبات ومسؤوليات على المرأة في المجتمع، وقد سمح للمرأة بقيادة السيارة، ونشرت ريهانا مباركتها حول الخبر بلوحاتي، وكذلك فعلت شخصيات أخرى حول العالم، فكان وقع هذا الأمر على نفسي جميلاً جداً، وكان تسليط الضوء على هذا النوع من الموضوعات في غاية الأهمية، لأنه يبرز جانباً مهماً من حياة المرأة السعودية التي مرّت بأحداث متتابعة فيما يخص تمكينها من حقوقها.
ذكرتِ من قبل بأنه لا وجود لنقّاد حقيقيين للفن التشكيلي في السعودية، ليس هناك نقد بالمعنى المتخصص والعلمي والمحايد؛ بمَ تفسرين ذلك الغياب النقدي للفن؟
- النقد الفني البنّاء ضروري، لأنه يحلل العمل الفني ويعمل على إبراز مضامينه، ولعل العمل الفني بحاجة إلى معايشة، بمعنى أن الناقد يجب أن يتعايش مع الفنان في جميع مراحله، ليرى لماذا أنتج الفنان هذا العمل، ولماذا رسم هذه المجموعة، وبالتالي يقف عند كل مرحلة من مراحل حياته وينقدها ويحللها، ويكتب بعمق وكأنه شاهد على حياته أو كأنه يكتب سيرة ذاتية، لذا هناك حاجة وضرورة للنقد الفني البنّاء الذي يحمل المضامين الجمالية والتحليلية التي تخدم هذا العمل الفني أو ذاك وتفسره.
فزتِ بعدة جوائز على المستويين المحلي والخارجي، وكرمتِ أكثر من مرة، وكنتِ ضمن قائمة أهم 100 سيدة من السعودية لعام 2012؛ أي انطباع تتركه الجوائز على لوحاتك وحياتك؟
- خضت مسابقات مشهورة وفزت خلالها بمراكز أولى وأخرى متقدمة، لتؤكد لي بأنني على الطريق الصحيح. حفزتني الجوائز لأستمر في مشواري، وأوثّق تجربتي التشكيلية، وأكتشف مدى مهارتي في التشكيل.
تعددت مشاركاتك في المعارض الفردية والجماعية؛ ترى عندما شاركتِ في برنامج (الفنان المقيم) لمدة شهرين بالعاصمة الفرنسية باريس؛ كيف تنظرين إلى تلك التجربة؟
- برنامج الإقامة الفنية كان من أهم المحطات الفنية في حياتي، وأشكر أستوديو المنصورية في باريس والأميرة جواهر بنت ماجد آل سعود لدورهما العظيم في منحي إطلالة على العالم، حيث كنت أشاهد الأجواء الفنية، وكل شيء في الواقع كان مهيئاً للإبداع والرؤية البصرية. فأن تقيم في مدينة الفنون وتنتج معرضاً في نهاية الإقامة الفنية، ويتم افتتاحه، ويكون هناك زوار له، إلى جانب الاندماج مع ثقافات مختلفة؛ أظن أن لكل هذا تأثيراً كبيراً في حياتي الفنية، حيث باتت لدي رؤية أخرى وتفكير متطلع. أنا ممتنة لهذه التجربة كثيراً.
تختزلين التفاصيل في لوحاتك دون توضيح لمتلقيك، فهو برأيك من ينبغي له أن يجتهد ويفسر مضامينك؛ لماذا؟
- في أعماقي طفلة لم تكبر، أستشعرها وأنا أرسم كالأطفال، وما في لحظة الإبداع يكون على سطح اللوحة، سواءً بالتفاصيل أو بالحكايات أو المشاعر أو الأحاسيس، فهي تترسخ هكذا بكل بساطتها وصدقها وفطريتها التي لا تلامس متلقيها إلا وتأملاته لها؛ وهكذا تكون المشاركة.
هل ثمة اختلافات جذرية بين الموضوعات التي تتناولها التشكيلية، وبين الموضوعات التي يعالجها التشكيلي في لوحاته؟
- أنا ضد أن يكون هناك فن تشكيلي رجالي وآخر نسائي، أنا أعتقد أن الإنسانية واحدة، لأن الكثير من الفنانين الرجال رسموا عن المرأة، لذا لا أستطيع أن أميّز بينهما في هذا الأمر، ولكن يمكنني أن أقول إن هناك إحساساً أكثر أو تجليّاً أكثر أو وجوداً روحياً يختلف باختلاف الشخص نفسه، وباختلاف الروح الموجودة داخل هذا الجسد، وليس الجنس، إذن فالروح هي المصدر الأساس، والروح لها طاقة كبيرة جداً عن طريقها تستطيع أن تنقل طاقتها إلى داخل العمل الفني، ومن ثمَّ تنتقل على المشاهد أو المار أمام العمل الفني، فيستطيع أن يشعر أو يحس بالرعشة التي تحدث بسبب العمل داخل المتلقي، أنا أعتقد أن الفارق هنا يكمن في الروح الصادقة والشفافة والجميلة، فهي التي تستطيع أن تُوجِد هذا الشيء، فالنجاح يكمن في الصدق.
قبل الختام؛ كيف تقيّمين وضع الفنانة السعودية اليوم؟ وبرأيك ما أهم المعوقات التي تواجهها؟
- الفنانة السعودية موجودة وبقوة، ومع ذلك يحتاج الجيل الجديد من الفنانين والفنانات إلى دعم مادي ومكاني، من خلال إقامة الجاليريات والمعارض كي تحتوي على هذا الإبداع، وأن تكون هناك حاضنات فنية ومراكز وأماكن تستطيع أن تحتضن الفنان وتدعمه بالشكل اللازم. أنا أرى أن هذه الأمور قد باتت متوافرة الآن في مؤسسة الأمير محمد بن سلمان الخيرية (مسك)، ففيها برامج رائعة جداً للفنانين والفنانات، حيث يمكنهم الالتحاق بها، وهي داعمة بشكل كبير جداً لهم.

ذو صلة