مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

نقولا زيادة والتأريخ.. رحلة عمر

نقولا زيادة المؤرخ والمعلم والمترجم كرس جل سنوات عمره في التأريخ. عاش قرابة قرن من الزمن يؤرخ بأسلوب أدبي ماتع رصين، فنقل روح الأدب إلى التاريخ فأضحى معه التاريخ أكثر سلاسة وجذباً. يعد نقولا أحد أبرز كبار المؤرخين العرب في القرن العشرين، فكان مؤرخاً موسوعياً. ولد 1907 من أبوين أصلهما من فلسطين (الناصرة). كان فلسطيني الأصل سوري النشأة لبناني الجنسية، ومن هذا المنطلق كانت النشأة في دمشق ثم التحق بمدرسة الفرير. كان والده يعمل بقسم الهندسة في الإدارة العامة لسكة حديد الحجاز، دمشق. وعندما توفي والده عاد نقولا إلى فلسطين (الناصرة) مع والدته، التي أصرت على استكمال تعليمه. ففي عام 1919 دخل (دار المعلمين) في القدس فتلقى تعليمه على يد أساتذة كبار مثل جورج خميس وجورج طوطم؛ فعشق المعرفة وأخلاقيات المعلم والباحث العلمي. كان مسيحي الديانة مسلم الهوية، لقب بالشيخ نظراً لكثرة استشهاده بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية في أحاديثه.
وجدير بالذكر أن نقولا كان مولعاً بالرياضيات ولكنه بالصدفة بعد تخرجه تم تعيينه مدرساً للتاريخ والجغرافيا في مدرسة عكا؛ فخصص معظم وقته للاطلاع لدرجة أنه أبحر فغرق في التاريخ وساعدته في ذلك الرحلات الطويلة في المشي فكان يعشق المشي في بلدان فلسطين وقراها، ويحفظ تاريخها فمشى إلى لبنان وسوريا عام 1925 فربط كتاباته التاريخية بالجغرافيا لكي تكون محركاً للأحداث التاريخية.
في عام 1935 تم اختياره لبعثة دراسية في لندن، فتخصص في التاريخ وهناك أتقن اللغتين الألمانية والفرنسية. عام 1939 عاد إلى فلسطين فدرس التاريخ القديم وتاريخ العرب، فأصدر كتابه الأول في 1943 (رواد الشرق العربي في العصور الوسطى). وفي عام 1945 أصدر كتاب (وثبة العرب). وبعد احتلال فلسطين عام 1948 نزح إلى لبنان وحصل على جنسيتها، وفي عام 1950 عاد إلى لندن ليحصل على الدكتوراه بأطروحة: (سوريا في العصر المملوكي الأول). ثم عاد إلى لبنان والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، فتدرج في السلك الوظيفي حتى عُيّن أستاذاً للتاريخ (1958 - 1973) ودرّس في الجامعة الأردنية في عمان (1976- 1978).
وبعد بلوغه الخامسة والخمسين تقاعد من الجامعة الأمريكية وأشرف على جامعة القديس يوسف وكلية اللاهوت ببيروت للإشراف على طلاب الدراسات العليا في التاريخ العربي حتى عام 1992.
شيخ المؤرخين العرب
كان أسلوبه بليغاً ماتعاً خصوصاً عندما يتناول خلجات النفس البشرية وتأريخ العادات والتقاليد والحرف العربية. اهتم بكل فترات التاريخ وحقبه، بدءاً من التاريخ القديم حتى المعاصر، وركز عينيه على أبرز الجوانب الحضارية ليخرج عبرة تحليلية للماضي لتجاوز الواقع والتواصل مع المستقبل، واعتبر كل ما مضى تاريخ فأرخ لبائع الفول في عكا وأرخ لبعض الأمراض.
نقولا المؤرخ معني بأحوال الأمم وحضارتها وباحث عن أسرارها وخفاياها ومفسر لأسباب نشوئها ونهوضها وتراجعها وزوالها.
القضايا التي اهتم بها
كانت القومية العربية من أهم القضايا التي اهتم بها نقولا، فكانت القومية عنده شعوراً ناشئاً عن الانتماء وفهم التراث، فكان يدعو إلى فهم تاريخ العرب وتراثه فهماً صحيحاً. توقف عند الحضارة الإسلامية طويلاً؛ فكان 67عاماً معلماً و70 عاماً باحثاً، ولم يضع القلم إلا مع نهاية حياته. ويتمتع بروح وحيوية الشباب رغم عمره المديد.
حاول أن يكون أديباً وروائياً فلم يستطع رغم محاولاته المتعددة ولكنه نجح في أن يأخذ التاريخ بعيداً عن ساحات المعارك إلى مكان آخر يعنى بالإنسان والمكان والمهن.
نقولا زيادة والتاريخ
كانت ذاكرته أشبه ما يكون بذاكرة الأرشيف، فدون أدق التفاصيل في التاريخ، كان التاريخ بالنسبة له مملكته الخاصة التي يعرفها فيعتبر كل ما مضى تاريخاً، حيث كان لديه قدرة عجيبة على تأريخ كل ما يراه وتحويل مادة المشاهدة أو السماع إلى تاريخ. لقد حول حياته إلى تاريخ في مذكراته (أيامي).
توصيات نقولا زيادة للمؤرخين
دعا نقولا إلى كتابة تاريخ حري بالقراءة الحاضرة والمستقبلية، لذلك حث على اطلاع المؤرخ على مسارات التاريخ وقوانينه وسننه بل يجب أن يضع فترته تلك في سياقها التاريخي العام.
لقد صك نقولا مصطلحاً تاريخياً مهماً في التطور التاريخي وهو (الجيولوجيا الاجتماعية) أي أن الشعب الذي يكون في مكان ما وكانت له إنجازات فإن هذه الإنجازات لا تذهب مع الريح ولا تنسى لمجرد أن يُهزم أو يتراجع أو يستولي شعب آخر على بلاده. إن هذه الإنجازات تظل ثابتة في المجتمع الجديد فتنتقل إليه اجتماعياً كما تنتقل شعيرات النباتات من طبقة من الأرض إلى أخرى لأن انتصار السيف والمدفع لا يمحو تاريخ الإنسان والأرض، فدعا لدراسة الحضارة الإسلامية لفهم خصوصيتها مقارنة بالحضارات الأخرى.
لقد حذر من تحيز المؤرخ لأن ذلك التحيز يعمل على تشويه التفسير التاريخي فيوصي المؤرخ بوضع عينيه على الماضي وعلى المستقبل لكي يعرف أن التاريخ ليس معارك، وضروري للمؤرخ الصحيح أن يتعرف إلى جو المعركة الخارجي. ويجب العناية بالوثائق والآثار فهما أساس في المنهجية التاريخية ومصدر مهم لاستقراء التاريخ، مع ضرورة فهم واستيعاب تأثير الجغرافيا المكان والزمان والإنسان.
المناصب التي شغلها
درّس تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية بصفته أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات العربية والأجنبية، وشارك في عدد من مؤتمرات المستشرقين، وكان أستاذاً مشرفاً في دائرة التاريخ لدى الجامعة الأمريكية في بيروت وعضواً مشرفاً في جمعية المستشرقين الألمان، وعضو جمعية المستشرقين الأمريكيين، وعضواً في المجلس الاستشاري للموسوعة الفلسطينية، ومحرراً للقسم الثاني منها، ومحرراً لسلسلة الدراسات العربية التي صدرت عن (لونغمان) في لندن.
الجوائز
نال عدداً من الأوسمة منها وسام الأرز الوطني برتبة فارس من لبنان 1973 ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة 2002 كما حصل على عدد من الدروع والجوائز التقديرية من عدد من الجامعات والحركات الثقافية.
من أهم مؤلفاته
كتب ما يقارب 150 مقالاً، وأصدر أكثر من أربعين كتاباً، وترجمت كتبه إلى عدة لغات، ومن أهم كتبه (وثبة العرب) 1945 القدس والعالم القديم -يافا 1942 وصور من التاريخ العربي القاهرة 1946 القاهرة وشخصيات عربية تاريخية 1946 يافا وصور أوروبية 1947 القدس وعالم العصور الوسطى في أوروبا 1947 القدس وقمم من الفكر العربي الإسلامي 1987 بيروت والجغرافيا والرحلات عند العرب 1987 بيروت وشاميات.. دراسات في الحضارة والتاريخ 1989 بيروت والمسيحية والعرب 2001 بيروت. وقد أصدرت الأعمال الكاملة له في أكثر من عشرين مجلداً في بيروت.
إن المؤرخ نقولا أعطاه التاريخ حق التجوال في شعابه، فكانت حياته الطويلة تاريخاً وتأريخاً.

ذو صلة