مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عن القيادة أتحدث

بدايةً، لا تفي كلمات الشكر تعبيراً وامتناناً وتقديراً للدكتور الراحل غازي القصيبي رحمه الله، فقد قضيت برفقة كتابه أياماً مليئة بمعاني الوفرة القيادية، وبتفاصيل تتضمن آلية تحفظ للقائد سلطته، تستشفها فيما تقرأ بين السطور. أسلوب حياة انتهجه في صغره، وتطور به في كل مرحلة تلي أختها، بما يؤكد ما كنت أظنه بأن القيادة قد تنمّ عن فطرة يولد بها الشخص دون غيره، ويطورها تعاقب التجارب التي تصقل الإنسان وتتولى تشكيله حسب ما يمضي به الطريق. وقد لا أتميز بحديثي، أو لا أختلف كثيراً بما أطرح؛ فقط لفتات أنارت لي مسارات في القيادة، سأذكر بعضها لعلنا نطّلع على تجارب من سبقونا ونقتدي بهم، ونسعى لنتخطى مصاعب داهمتهم ووقعوا في زخمها مدةً ليست هيّنةً من الزمن.
بدأ الدكتور غازي القصيبي حياته يتيم الأم ترعاه جدته وحيداً بلا أقران، تحت جناح أب يتسم بالشدة والصرامة، وجدة تتصف بالحنان المفرط، ما أدى به لدلالة ثابتة: (بأن السلطة بلا حزم تؤدي إلى تسيب خطر، وأن الحزم بلا رحمة يؤدي إلى طغيان أشد خطورة).
ذكر إثر تجاربه تنويهاً فيما يخص مَن خالط مِن الطلاب بشتى بقاع الأرض، لفتته فيها وحدة اليهود، وأنهم لا يسيرون إلا جماعات منظمة، بينما الغالبية العظمى من العرب يمضون أفراداً عفويين لا مباليين بأهمية وحدة الجماعة وقوة تأثيرها. وفي تجاربه السياسية إثراء أدى به إلى العديد من القفزات على مدار حياته، وكون بها العديد من العلاقات التي أثمرت فيما بعد وتكللت نتائجها بصقله سياسياً من نواحٍ عديدة.
ومن مهنه التي أجادها مهنة الاستشارات القانونية، وقد مضت به إلى تصور واضح عن الطبيعة البشرية بأنه: (لا يأخذ الناس بجدية كافية أي خدمة تقدم لهم بلا مقابل أو بسعر منخفض).
ومن هنا أسهب بحديثي عن جانب مهم يجب أن أتطرق إليه، فحين ذكر تجربته التي خاضها في الاستشارات القانونية؛ لامسني كثيراً في حديثه عن الخدمات المقدمة إلى الناس، حيث أنهم لا يأخذون بجدية كافية أي خدمة مجانية تقدم لهم. ومن تجربة شخصية، حين افتتحت المركز الرياضي الذي يحمل هويتي ورؤيتي؛ عمدت وسعيت أن ينقل صورة جيدة، ويحمل واجهة مجتمعية تحتوي على الكثير من المبادرات الخيرية، وتحمل رسالة واحدة بأن الجميع يستطيع أن يمارس الرياضة في أي مكان وأي وقت، وتحت أي ظرف، ولم تكن الماديات من العوائق التي تمثل حاجزاً حقيقياً بالنسبة إلي، قدّمت لمعظم الأصدقاء اشتراكات مجانية وبعض الأقارب كذلك، والعديد من المساهمات المجتمعية الفعالة والسحب على اشتراكات مدفوعة الثمن، بيد أنه لم يأتِ أحد منهم ويفعّل اشتراكه إلا عدد قليل بل يكاد يعد بأصابع اليد. أظن فعلاً أن
الناس لا تأخذ الموضوع بمنحى جدي حين يتعلق الأمر في العطايا والهبات المجانية، وتفضل أن تدفع الكثير من المبالغ حتى تضع قيمةً للخدمة المقدمة لهم.
برأيي الشخصي يعتبر كتابه (حياة في الإدارة) مرجعاً أساسياً ومهماً لكل قائد ينوي أن يبدأ قيادته على أسس واضحة ومتينة، مبنية على تجارب من سبقوه، حكى فيها الدكتور غازي القصيبي عن العديد من الجوانب المهمة والمؤثرات الأساسية التي قد تلحق بقرارات القائد بقصد أو من دون قصد. وأرى أن المعيار الأول الواضح والمهم الذي نوّه عليه الكاتب هو معيار (إنجاز المهام بسرعة)، وهذا ما أتفق معه فيه، وأنحاز إلى تأييده بشدة، حيث أنه لا فائدة ترجى من المماطلة وتعقيد الأمور وعدم إنجاز المهام بوقتها الذي من المفترض إنجازها فيه، بل على العكس تماماً يؤدي تعقيد المواضيع إلى نتيجة واحدة ترجع إلى سوء في الإدارة وعدم تنظيم لكافة الأعمال، بل إهمال واضح من جانب القائد الإداري.
‏ومن الجدير بالذكر أن نتطرق للجانب الآخر الذي يبدو مختلفاً تماماً ألا وهو الاعتراضات والخلافات التي تحدث في بيئة العمل، فقد تحدث عنها الدكتور غازي حين قال: (ولولا الخلافات العنيفة ما أمكن الوصول إلى قرارات صائبة). وأتفق معه كثيراً في هذه النقطة، فلو أن جميع اجتماعات العمل قادت إلى نتيجة واحدة ينصها القائد، لن يتطور أبداً ولن يتغير في إدارته سوى أنه سيظل نسخة مكررة عاماً تلوى الآخر. ومن التطور الوظيفي والمهني أن تأخذ بعين الاعتبار اقتراح أحدهم وتدرس أبعاده جيداً، فقد يفتح آفاقاً واسعةً في ذهنك. نعود لنقول إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ودائماً ما أرى للاختلاف زاوية صحية في أحيان كثيرة.
‏وأكد الدكتور غازي القصيبي على ضرورة التقيد بالتنظيم والالتزام التام بمواعيد الحضور والانصراف، فهو ينمّ عن شخصية عملية، وتعكس كذلك مدى إلمامك بأهمية العمل وتحمل المسؤولية. وعلى الرغم من ذلك فإنني أعارض تعميم هذا المبدأ في المطلق، وأختلف معه من واقع تجربة، فأنا من مؤيدي العمل المرن، حيث لا يتقيد بنظام ثابت ولا ساعات عمل معينة، بل على العكس يؤدي الموظف أهم واجباته وينصرف حين الانتهاء منها، ورقابته فيها رقابة ذاتية بحتة، وتقييمه يعود لإنجازاته الشهرية وأعماله التي تتحدث عنه. دائماً ما أرى أن ساعات العمل التي يقضي فيها الموظف ثمان ساعات أو أكثر من يومه مع مرور الوقت تؤدي به إلى الاحتراق الوظيفي، حيث هناك العديد من أوقات الفراغ التي يقضيها الموظف لإنهاء ساعات دوامه وحسب، دون أن توكل إليه أعمال حقيقية، وهذا ما لا أحبذه في بيئة العمل، وهي ما تؤدي به إلى الملل والضجر والسخط، بل تولّد السعي للرغبة في تغيير المكان بسبب انعدام القدرة على العمل بحب واستمتاع. لا أعمم بالطبع حيث أن هناك استثناءات تستوجب الحضور من بداية الوقت حتى نهايته، بما فيها الأعمال الخدمية، حيث يكون هناك احتكاك تام بالعملاء والحاجة لخدمتهم واحترام مواعيدهم وضرورة الحضور على رأس الساعة.
‏‏وكنت دائماً أرى أن مخرجات البيئة الجيدة تثمر أشخاصاً ناجحين، فكما تحدث الدكتور غازي عن بعض الجوانب الشخصية في حياته الخاصة، من زواج ناجح وأصدقاء محبين وداعمين انعكست عليه العديد من الآثار وتلخصت بالصفات التي ساعدت على اتزانه واستقراره الإداري، وكما يقول المثل الدارج (ماخاب من استشار)، فأنا من أشد الداعمين لضرورة الاستشارة، بل على يقين تام بأهميتها، وهذا ما أثار انتباهي، فعلى امتداد مسيرته القيادية ظل يذكر أسماء من رجع إليهم بسؤال واستفسار، ويشيد باستشاراتهم التي دعّمت معظم قراراته الصائبة، سواءً من أصدقاء مقربين أو مسؤولين وقادة، ولا يتوانى للحظة عن الأخذ بأي رأي، بل يثني عليهم ويذكرهم بأسمائهم دون التحرج من ذلك، ودائماً ما ينسب الفضل لأهله، وهذا إن دل على شيء فهو ينمّ عن سلام عميق وتصالح تام ورضا عن ذاته.
أستشهد ختاماً بعبارة الدكتور الراحل غازي القصيبي حين قال: (أكاد أرى بعين الخيال، إدارياً شاباً من إداريي المستقبل يدفعه شغفه بالتاريخ القديم إلى قراءة هذا الكتاب. أكاد أسمعه وهو يقول لزميل له بعد أن ينتهي من القراءة: كم يُهوّل هذا الرجل ويبالغ. المشاكل التي قابلته مقارنة بالمشاكل التي نقابلها لا تعدو أن تكون ألعاب أطفال). (حياة في الإدارة، ص 357)
وهذا ما لا أتفق معه فيها بتاتاً، فقد امتلأ الكتاب بالتجارب الغنية المثرية المتجددة، المليئة بحكمة القائد وبخلاصة سنوات من الخبرة، خطها لنا لننهل من علمه الشيء الكبير، فقد صور لنا عمق معاني حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). أثمر علمه وغذّى العقول، ونتج عنه جيل صاعد يبني قواعده على أُسسٍ متينة بالقيادة، وتطلعات للمستقبل لا حد لها.

ذو صلة