مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

رحلة المخطوط العربي إلى الزمن الجديد

وثيقة تاريخية تكتنز الأبعاد، كانت في زمن كتابتها والأزمنة التالية مساحة لحوار معرفي مفتوح وفضاء للنقد والتعليق من قبل المتلقين، فكان المتن أشبه بشمس تحفها وتدور من حولها الحواشي والهوامش بحمولاتها من الشروحات والتعريفات والتعليقات والحوارات وتفاعلاتها المستمرة عبر الزمن.
هذه الوثيقة العابرة للزمن ليست إلا المخطوط العربي بحمولته المعرفية وحركتها الدائبة التراكمية، سواءً كانت هذه الحركة مجازية معرفية، أو فيزيائية بالمعنى المباشر كفعل انتقال من مكان إلى مكان، وكلا الحركتين المجازية والحقيقية وسمتا المخطوط العربي ولازمتاه بحيث أصبح بالإمكان تتبع الحركة الحقيقية للمخطوط من خلال تتبع حركة ارتحاله مع مؤلفه إلى مدينة جديدة وحينذاك تستمر الحركة المعرفية عليه وتتراكم.
لم تتوقف حركة المخطوط بعد وفاة مؤلفه بل استمرت بتواصل عمليات الانتقال والنسخ والشروح والإضافات التي كانت تجري في معظم الأحيان في عدة أماكن وأزمنة، وصولاً إلى الزمن الحاضر تغدو هذه الحصيلة الثرة الكامنة بين دفتي المخطوط مدعوة إلى التقدم نحو المنصات التواصلية الجديدة حيث يكتسب الزمن بعداً تسارعياً فائقاً يتواكب فيه بدأب مع الانفجار التقني الحداثي، غير أن هذه الوسائل ما زالت معزولةً عن الأمومة الفكرية الفلسفية التي كانت عبر التاريخ ممهدة ومواكبة للنهضات الحضارية والتقنية. هكذا يكون من المحتمل أن تشرع الأمومة الفكرية العظيمة الكامنة في أوراق المخطوطات العربية بتشذيب وتقليم الجانب الجامح غير المطمئن في هذا الفيضان التقني الجديد.
الرحلات الأولى للمخطوط العربي
رحلة المخطوط هي رحلة المؤلف مع أوراقه وأحباره وريشه بحيث كان المخطوط ومؤلفه كياناً واحداً، فكانت هذه الرحلة تقطع آلاف الأميال بقصد إجراء بحث أو تحقيق استكشاف ما أو القيام بإحصاء في إقليم أو مدينة بعيدة، وشكلت نتائجها الأولى حصائل تأسيسية ميدانها الجغرافي هو المدن العربية التي غدت الحافظات الأول للتراث العربي المخطوط ليكون بإمكاننا أن نلحظ أن هذا الجزء الزمني من رحلة المخطوط العربي بقي متشابكاً ما بين المدينة المنورة والكوفة والبصرة ودمشق وحلب والقدس وطرابلس الشام والقاهرة. كل هذه المدائن شكلت دائرةً جغرافية - ثقافية واحدة غابت عنها الإقليمية والحدود واستمرت علاقاتها على هذا النحو حتى أواسط القرن العشرين.
الترحيل القسري للمخطوطات/ الحضارة اللينة
بحلول القرن الخامس الهجري سيقع المخطوط العربي في براثن ترحيل قسري تجاه الغرب على وجه الخصوص، تم ذلك في ظروف الحروب الصليبية التي امتدت على قرنين، وكذلك أثناء وبعيد خروج العرب من الأندلس والمحاولات المستمرة لكشط وجه الثقافة العربية التي انتثرت وتناسلت في جنوبي القارة الأوروبية على امتداد 800 سنة متواصلة. هكذا وعلى امتداد بضعة قرون رحلت بضعة ملايين من المخطوطات العربية إلى أنحاء أوروبا واستقرت هناك باعتبارها ثروةً كبيرة سيتم الاستناد إلى نتائجها في مشاريع وأفكار النهضة الأوروبية بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي، علماً أن مؤرخي ومؤدلجي عصر النهضة الأوروبية لم يعترفوا بدور هذه الحصيلة المعرفية.
نوع آخر من انتقالات المخطوط العربي بقيت تحدث عبر التاريخ إنما -هذه المرة- لأسباب تتعلق بخصوصيات الحضارة العربية التي كانت محسوسة وواضحة حتى للأعداء الذين استشعروا أنها حضارة انفتاحية غير عنصرية ولا متقوقعة داخل أيديولوجية متطرفة مما أمدها بأسباب من الليونة والاحتواء دعاها إلى الانبساط الشامل تحت العباءة الكبرى للدين الإسلامي وإنتاج جغرافيات ثقافية جديدة ونوعية كان في طليعتها منطقة الثقافة العربية خارج الجزيرة العربية حين بدأ الانبعاث الحضاري بالتدفق متجاوزاً منابعه الأساسية في المدينة المنورة ومكة المكرمة إلى بلاد الشام والعراق ومصر وشمالي أفريقيا والشواطئ الأفريقية للبحر الأحمر. هذه الفرادة في طبيعة الحضارة العربية كسرت إلى حد كبير الطوق القانوني لحقوق الملكية العربية المباشرة لتراثها المخطوط. كما أن أسباباً طبيعية ودعوية ساهمت في تشكيل المكتبات العربية الضخمة في العمق الآسيوي الشرقي وعند أبواب أوروبا الجنوبية وسيكون للمخطوطات العربية حضور نوعي في تلك الجغرافيا الجسرية عند مضيق البوسفور.
بسبب من هذين الجزأين المتناقضين من رحلات المخطوط العربي سنجد كيف أن مدناً أوروبية عريقة أضحت مقرات للمخطوطات العربية مؤسسةً بذلك لبيئة خصبة من التفاعلات الفكرية -  السياسية أنتجت مؤسسة الاستشراق بأبحاثها ومطبوعاتها التي تغلغلت بطريقتها الخاصة في التراث العربي.
الثقافة اللا جغرافية الجديدة
لم يقرأ المخطوط العربي من قبل أهله فقط بل اقتناه وقرأه العالم شرقاً وغرباً في حالتي السلم والحرب وتجسدت نتائجه في مستويات كثيفة من التفاعلات والتناقضات وصولاً إلى اللحظة الحاضرة حيث من المحتمل أن يقلع المخطوط العربي في رحلته التقنية نحو الزمن الجديد وتغدو هذه الحركة مشروعاً حتمياً وذلك لكل الأسباب المذكورة سابقاً التي تشابكت وتعقدت معاً في معظم الأحيان. سيكون من العناوين الفكرية لهذه العملية: الإتاحة الحداثية السهلة والسريعة للاطلاع على محتويات المخطوط بعد أن أصبحت الأجيال الجديدة في العالم كله تحمل ثقافات متقاربة بحكم وسائل التواصل. من الدرجات التقنية في هذا المشروع: إنتاج برامج حاسوبية متصلة مباشرة بالمخطوط العربي لاستيعاب مستلزمات عمليات التحقيق والبحث التراثي والعرض في تجاوز للبيانات التقليدية التي توصف المخطوط في فهارس خزائن المخطوطات ومن ثم الاتجاه بجرأة نحو تشكيل وتطوير بيانات وتعريفات تواكب الحداثة العالمية بما يتعلق بموضوع المخطوط ومؤلفه وزمن تأليفه والأزمنة التالية التي تسجل ما تسجله فوق الحواشي والهوامش، سنقول مثلاً بأن مخطوطاً ما ذو محور هيدرولوجي، أو ميترولوجي، أو فيزيولوجي.. بحيث يكون محتواه واضحاً للأجيال الجديدة سواءً في المنطقة العربية أو في جميع أنحاء العالم، فقد أصبحت مخاطبة العالم إحدى حتميات وشروط الدخول إلى الزمن الجديد. هذه البيانات الجديدة -التي لا تمس محتوى المخطوط بتاتاً- هي التي ستقدم المخطوط فلا تضيع قيمته في الإبهام والتمسك بلغة ومصطلحات تعريفية مندثرة.
ولكن، هل ما يقدم الآن من محاور تراثية عبر الإمكانات التقنية المتجددة يمكن أن يمثل الظهور الحداثي الإلكتروني للمخطوط العربي؟! لا يوجد في هذه العجالة جواب قاطع وغالب الظن أن المتفاعلين تواصلياً بمواضيع ومحاور التراث العربي ليسوا هم المتفاعلين الجدد، لم تتبلور بعد خبرة الاختزال الإبداعي ومن الواضح أنها ميزة أساسية من ميزات الزمن الجديد. كذلك لم يتم التوصل إلى الدقة الاحترافية في تحضير المادة التراثية لعرضها في الشروط التواصلية المطلوبة، فمن المحتمل ألا يكتفي الظهور التراثي الجديد بعملية استعراض وينتقل إلى البحث واستنباط الهدف الحداثي ونتائجه في أداء يتمكن من تحقيق ارتباطات بشبكات الاتصال العالمية.

ذو صلة