مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

كائنات الماء

«لم تسحبني قابلة كبقية المواليد ولم تعش أمي طقوس الولادات كبقية النساء»، بتلك العبارة تبدأ جدتي في رواية حكاية ولادتها العجيبة في قريتنا التي تجاور البحر.
تنتقل بنا جدتي مباشرة إلى تلك اللحظة المثيرة التي شهدت ولادتها، تحكي لنا أنه عندما اقترب المركب الشراعي لوالد جدتي من اليابسة، ذلك المركب الذي اتخذه سكناً له ولأسرته ومصدر رزقه في وقت واحد، سمعت والدة جدتي في تلك اللحظة صوتاً يحثها على نزول الماء، كان الصوت حاسماً، مما جعلها تتلفت حولها في اضطراب، الصوت الغامض جعلها تنزل الماء كالمسحورة، من حظها الجيد أن الماء لم يكن عميقاً في تلك النقطة التي وصلت إليها من البحر والتي عندها توقف الصوت. الماء الذي كان بارداً في ذلك الفصل من العام، شعرت هي بسخونته على غير العادة وشيء يتدفق ويندفع بغزارة من أسفلها، ثم سحبة قوية أعقبتها صرخة حادة انطلقت منها، التفت والد جدتي حوله بعدها في فزع ليراها عائدة إليه حيث المركب وهي تحمل بين يديها المرتجفتين كائناً صغيراً بصرخاته الضعيفة المتقطعة، الذي لم يكن سواي أنا جدتكم. تقسم (والدة جدتي) فيما بعد لزوجها، ولأشقائها، ولجيرانها بعد أن امتلك زوجها بيتاً على الأرض، بأن هناك من كان يساعدها في سحب طفلتها، تكمل قائلة إنها لم تتعرف بالضبط على من قام بمساعدتها في سحب رضيعتها.
قدومها للحياة جلب الخير لعائلتها، ففي تلك الأيام أصبح السمك وفيراً لا يكاد ينقطع عن الشباك واستطاع والدها أن يشتري بيتاً له على الأرض، ولكن جدتي كما تحكي لنا لم تكن تتعلق ببيوت الأرض، بل كان شغفها وتعلقها بالمراكب الشراعية بيوت البحر كما تسميها، تظل بالساعات الطوال فوق المركب الشراعي تنظر إلى البحر تنفذ بعينيها إلى داخل أعماقه ترقب الطيور وهي تتسابق وتعلو وتهبط فوق صفحته الزرقاء، تنتظر هبوط ليل البحر الذي لا تخشاه كما يخشاه الجميع حتى أبرع البحارة والصيادين كي تستقبل أصدقاءها من كائنات الماء التي ساعدتها كثيراً في معرفة أشياء غريبة، منها أماكن الغرقى في البحر وأماكن تجمع الأسماك.
لا تفصح لنا جدتي عن طبيعة تلك الكائنات التي تراها هي فقط وتشعر بها ولا نستطيع نحن رؤيتها، كانت حريصة على ألا تخبرنا بأي معلومة عن كائناتها حتى اعتقدنا أنها تمزح معنا بحكاية كائنات الماء.
الألم المتكرر الذي أصاب قدمَي جدتي، وجعل أبناءها يترددون بها على الأطباء دون جدوى، لتخبرهم هي في النهاية بأن علاجها هو أن تعود وتعيش على مركب أبيها الراسية على شاطئ البحر، بعد إلحاحها الطويل عليهم وعدم تحسن حالة قدميها أعادها أبناؤها لتعيش على سطح المركب المهجور الخاص بوالدها، بعد أن أصبح لكل واحد من أبنائها مركب صيد حديث.
كان الأبناء يتناوبون على زيارتها كل يوم حاملين لها الطعام، بينما نحرص نحن الصغار على قضاء الساعات معها كل يوم على سطح المركب نستمع لحكاياتها بينما هي تغمر قدميها في الماء طوال الوقت نسألها لمَ لا تخرجين قدميك من الماء يا جدتي؟ ألا تخافين من أن يهجم عليهما أحد كائنات الماء؟ تضحك جدتي وتقول لنا: تقصدون بالطبع كائنات الماء التي تعرفونها، ولكن ألم أخبركم من قبل أن هناك كائنات ماء أخرى لا تعرفونها، تتولى حمايتي؟
في وصيتها أوصت جدتي أن يبنى لها مدفن على حافة البحر تدفن فيه وحدها، رفض أبناؤها ذلك الطلب الغريب الذي لم يفعله أحد من أهل القرية من قبل وعندما ماتت دفنت في المقابر العادية، لم يمض أسبوع على وفاة جدتي حتى هاج البحر على قريتنا، وهو الذي لم يفعلها من أيام الأجداد، فاض ماؤه وتسرب سريعاً، متخذاً طريقه ناحية مقابر قريتنا وكأنه كان يفكر ويخطط قاصداً هذا المكان دون غيره، أغرق ماء البحر قبر جدتي ولم يمتلك أحد الشجاعة الكافية ليستكشف ما يحدث وهم يستمعون لتلك الأصوات المرحة التي كانت تخرج من مقبرتها، تشجعت أنا وتغلبت على خوفي، أطللت من كوة في المقبرة وجدت ما يحف بها ويغني لها، إنها كائنات الماء التي لم تبح لنا جدتي عن سرها من قبل.

ذو صلة