مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

هوامش على دفتر الفتة

- أحمد؟.. أهذا أنت حقاً؟!
- ياه!!.. لم أرك منذ أيام الدراسة.. كيف حالك يا صديقي؟.. أين أنت الآن؟
لم أكن أهتم حقاً بمعرفة أحواله.. بالواقع إنني لم أتذكر اسمه أصلاً.. تذكرت فقط وجهه الكالح النحيل من سنوات الدراسة..
- أنا الآن أعمل في الهيئة.. هيئة الأغذية..
شعرت بانقباضة مؤلمة في معدتي..
***
قرار..
بإنشاء الهيئة العامة للتغذية الصحية
مهمة الهيئة:
الحفاظ على الحالة الصحية للمواطنين عبر متابعة نظامهم الغذائي.
مسؤوليات الهيئة:
• تحديد الوجبات اليومية لجميع المواطنين بناء على حالة المواطن الصحية ووزنه.
• توفير أذونات الصرف لمكونات الطعام المحددة للمواطنين.
يحظر على أي مواطن مخالفة النظام الغذائي اليومي المحدد له، وإلا سيعاقب بالحبس والغرامة، ويحول لمركز إعادة التأهيل الغذائي.
***
يبدو أن الانقباضة الخائفة من معدتي تركت أثرها على وجهي.. فبادرني قائلاً:
- لا تخف.. أنا (منكم)..
- منا؟.. ما ال...؟
- أنا أعرف.. أعرف أنك حصلت على كيس مكرونة الأسبوع الماضي.. عبر إذن مزيف.
- ...
***
أجلس أمامه عبر منضدة هذا الكافيه الصغير الذي اصطحبني إليه.. الجارسون يعامله باحترام زائد بالطبع.. يخرج (صديقي) دفتر الطعام الأسبوعي الخاص به.. يبدو دفتراً سميناً.. يقتطع منه أذني صرف يعطيهما للجارسون:
- اتنين (ميلك شيك).. أنت ضيفي.
بالفعل.. خلال دقيقة كان على المنضدة أمامنا كوب من المخفوق اللبني المثلج..
لم أستطع أن أمنع تساؤلي:
- إذاً فأعضاء الهيئة لهم استثناءات حقاً..
- طبعاً.. بدل طبيعة عمل.. وإلا لما تحملوا كراهية الناس لهم.
رغم تخوفي أخذت رشفات سريعة من الميلك شيك.. لم أتذوقه منذ.. ربما منذ كنت في المدرسة...
- أنت معنا.. يجب أن تنضم لنا.. نحتاج لخبراتك في (تعديل) الأذونات.
- معكم؟!.. من أنتم؟
- لنقل إننا مجموعة من محبي الطعام..
أهمس:
- متمردون على الهيئة؟
- متحررون.. لماذا لا تحضر حفلنا القادم؟.. ديش بارتي كما كان يسميه آباؤنا.. ستجد فيه حرفياً ما لذ وطاب..
- حقاً؟.. هل سأجد...؟
- نعم.. ستجدها...
***
الفتة.. الممنوع الأكبر...
بين كل دفاتر الوجبات الأسبوعية التي تصدرها (الهيئة).. صارت الفتة هي الصنف الأكثر ندرة على الإطلاق.. يقال إنك قد تجدها في دفترك مرة في العمر.. إن كان في العمر كفاية.. رغم أن أمي تقسم أني أكلتها ذات مرة في سن الثالثة -قبل إنشاء الهيئة- إلا أنني لا أتذكر طعمها ولا شكلها على الإطلاق...
لا أعرف عنها إلا تعريفات هزيلة من الكتب والإنترنت: وجبة ذات أصول شرقية تتكون من الخبز والأرز والمرق.. ربما رأيت لها صورة أو اثنتان.. لكن يقال إن صورها منعت وأزيلت بأمر الهيئة...
لا أحد يعرف بالضبط سبب تحريمها القطعي هي بالذات.. ربما لأنها غير مناسبة لأي فئة من الناس.. السمان تزيدهم سمنة.. والنُحاف تغلق معدتهم بسرعة فلا يزيد وزنهم كثيراً.. غير مناسبة لمرضى القلب أو السكر أو القولون أو.. أو... وربما لهذا صارت المرغوب الأكبر.. لأنها مثال لطعام يؤكل للمتعة فقط...
***
بعد حيرة طويلة ارتديت قميصاً واسعاً.. ربما يؤدي ذلك الـ(ديش بارتي) إلى زيادة مفاجئة في الوزن تحتاج لإخفائها.. طريق طويل لمنطقة مجهولة.. كلما راودني التردد وفكرت في العودة ركبني جنون الفتة فأكمل الطريق...
بيت واسع مهجور.. لا يوحي من الخارج بكل الضجيج في داخله.. مطبخ مفتوح واسع مليء بالطهاة.. يعملون بكل قوة وسرعة وبلا حساب للكميات.. عشرات.. ربما مئات الأشخاص جالسون على مناضدهم يتأملون الطهي بتلذذ...
طاهٍ مرح وعجوز يسكب المرق على طبق كبير من الخبز المقمر.. إذن هذه هي...
سألت صاحبي:
- لماذا لا يتكالب الكل على تناولها بالذات؟
- لأنهم جربوها قبل ذلك في حفلات سابقة.. المستجدون فقط من يقتلهم الفضول فيبدأون طعامهم بها...
***
أجدها في طبق أمامي.. ملعقة أولى مترقبة.. ثم معالق عديدة متلذذة.. الجسد يدخل في خدر خفيف.. مشابه لما شعرت به يوم حصلت على قطعة من المكرونة بالباشاميل في دفتري...
نظرت لصاحبي بابتسامة وأنا أرشف العصير.. اقتبستُ من أبي نواس:
- ألا أعطني الفتة وقل لي هي الفتة...
ضحك وهو يرشف العصير أمامه.. توقف فجأة واستطعم العصير فبدا عليه الرعب:
- المخدر؟!.. اللعنة.. لقد اخترقونا.. انكشفنا...
شعرت بدوخة مفاجئة.. وسمعت الصوت وأنا أفقد الوعي:
- اتركوا الملاعق.. شرطة الأغذية..، سلموا أنفسكم.

ذو صلة