مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عبدالرب إدريس.. نغم الخليج الرقراق

يُعد الموسيقار السعودي من أهم مبدعي الأغنية الخليجية المعاصرة، إذ مضى بها إلى الأمام، وأمدّها بدفعات فنية وجمالية قوية، وساهم إلى جانب العديد من الفنانين الآخرين في انتشارها العربي العام. خلال مسيرته الفنية الممتدة، قام عبدالرب إدريس ولا يزال، بإضافة أجمل الألحان إلى المكتبة الموسيقية العربية والريبرتوار الغنائي الخليجي، آخذاً في صناعة الأغنية الشاعرية الراقية نغماً وكلماً، سواء تلك التي يغنيها بصوته العذب الشجي، أو التي تشدو بها حناجر كبار المطربين العرب في المشرق والمغرب، لا في منطقة الخليج العربي وحسب.
وُلد الفنان ذو الأصول الحضرمية في مدينة المكلا سنة 1946، وقضى فيها بعضاً من سنوات طفولته المبكرة، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية، وبدأ يكتشف ميله نحو الموسيقى، لكن كان عليه أن يخوض رحلة شاقة ممتعة بحثاً عنها. فحينذاك لم يكن تعلم الموسيقى وممارستها أو حتى سماعها، أمراً متاحاً تتوافر إمكاناته لدى الجميع، ومما يرويه الموسيقار عبدالرب إدريس في بعض حواراته التلفزيونية، أنه كان يتوقف عند بعض الأماكن العامة، من أجل أن يستمع إلى أغنية أو أغنيتين، وكان يحفظ اللحن بمجرد سماعه عبر الراديو لمرة واحدة فقط. ولعل فيما يذكره من قصة العود الأول الذي أمسكت به يداه، ما يدل على محاولته الوصول إلى الموسيقى بأي طريقة ورغم أي صعوبات، ذلك العود مهشم الوجه مقطوع الأوتار، الذي رمم كسره وأبدله أوتاراً جديدة بعد أن قام بشرائه من أحد الأصدقاء، ثم أخذ يتعلم ويعلم نفسه ذاتياً، يكتشف أسرار تلك الآلة الموسيقية ويتعرف معها على ملامح موهبته الموسيقية. لكن كل هذا لم يكن كافياً لرغبته في التعلم، أو مشبعاً لشغفه الفني العارم، فسافر وارتحل إلى القاهرة حيث توجد أكاديمية الفنون، ليدرس في المعهد العالي للموسيقى العربية المرحلة الثانوية، والمرحلة الجامعية، ثم مرحلة الدراسات العليا إلى أن حصل على درجة الدكتوراه من المعهد سنة 1988، وصار أستاذاً من أساتذة الموسيقى، إذ عمل معيداً لفترة من الزمن في المعهد العالي للموسيقى العربية في دولة الكويت عند تأسيسه.
هكذا جمع عبدالرب إدريس بين العلوم الموسيقية والمعرفة الأكاديمية، والموهبة الفطرية القديمة التي نشأت في نفسه منذ صباه، لكنه ظل مخلصاً لتلك الموهبة، محافظاً على فطريتها التي تضمن سرعة وصول ألحانه إلى الناس وسهولة تذوقها، وجعل المعرفة العلمية والأكاديمية داعمة للموهبة، معززة لتقنيات الموسيقى وفنياتها، لا متسلطة عليها متعالية على أسماع الجماهير وأذواقهم، فلم يتجه إلى التعقيد الغامض والتأنق الزائد أو الاستعراض الموسيقي المتعجرف، وفي الوقت ذاته لم ينسَ ما تعلمه وحصله من علوم الموسيقى، ووازن بدقة بين العلم والموهبة، فلا يستطيع أحد أن يصف ألحانه بالتعقيد الأكاديمي، أو أن يعتبرها مجرد إلهامات خالية من القواعد الفنية والنظام الموسيقي الدقيق. لهذا تستطيع هذه الألحان أن تصل إلى مختلف الأذواق الفنية، وأن يلمس جمالها السامعون من مختلف البلدان والثقافات.
لا يمتلك عبدالرب إدريس موهبة التلحين والتأليف الموسيقي فحسب، بل يمتلك كذلك موهبتي الغناء والعزف على العود، تلك الآلة العربية الخالصة التي استلهمت منها أوروبا العود الباروكي، والعديد من الآلات الموسيقية الوترية الأخرى. لا شك في أن العود هو الصديق الوفي ورفيق الدرب المخلص الذي صاحب عبدالرب إدريس منذ صباه إلى الآن، فكان العود هو أول ما يتلقى إلهاماته وخواطره الموسيقية، التي تتحول إلى ألحان رائعة فيما بعد، حين يمسك بمضرابه ويبثه لواعج نفسه وأسرار موهبته وأنغامه المنسجمة الموزونة. وكما يهوى المرء الاستماع إلى صوت عبدالرب إدريس وغنائه، يهوى أيضاً الاستماع إلى عزفه على العود، سواء العزف الذي يصاحب الغناء، أو التقاسيم المنفردة القصيرة في بداية الأغنية. يمكن القول إن العزف على العود هو الموهبة اللصيقة بكل من الموهبتين الأخريين، فالعزف لا يفارق عملية الغناء أو عملية التلحين ويصاحبهما دائماً، لذلك لم يكن موضع اختيار أو مفاضلة، على العكس من الغناء والتلحين اللذين تنازعا نفس الفنان على ما يبدو، أو على الأقل اضطر إلى ترجيح كفة إحداهما في ميزانه الفني، واختار أن يكون الموسيقار سابقاً على المطرب، وأن تكون الأولوية لتأليف الألحان وصناعة الأغنية، ولا يهم إن غناها هو بصوته أو منحها لصوت جميل آخر، وهو في هذا الأمر يشبه الموسيقار محمد عبدالوهاب في النصف الثاني من مسيرته الفنية ورحلته الإبداعية.
لم يتخل عبدالرب إدريس عن الغناء رغم أنه آثر أن يكون ملحناً في المقام الأول، فقد أصدر مجموعة من الألبومات الغنائية بصوته، منها على سبيل المثال (طائر بلا ريش)، (أراقب الساعة)، (أسمر حلو). كما أنه حقق نجاحاً هائلاً طربياً من خلال بعض أعماله، كأغنية (ليلة) التي انتشرت في جميع أرجاء الوطن العربي، وحفظت مكانها الدائم في القلوب والأسماع بجمالها المتجدد الأخاذ. أما أغلب ألحان الموسيقار عبدالرب إدريس، فيمكن سماعها من خلال أصوات أخرى كثيرة، كصوت المطرب الراحل طلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله وعبادي الجوهر.. وغيرهم في المملكة العربية السعودية، وسميرة سعيد من المغرب، وماجدة الرومي وراغب علامة من لبنان، وآمال ماهر من مصر، وعبدالكريم عبدالقادر وعبدالله الرويشد من الكويت. ولا تقتصر قائمة أعماله على هذه الأسماء فقط، وإنما تمتد لتشمل العديد من المطربين. تنفرد منطقة الجزيرة العربية ودول الخليج بمقامات موسيقية خاصة بها، كما هو معروف، بالإضافة إلى المقامات الموسيقية العامة التي تشترك فيها مع بقية الدول العربية، وتنفرد كذلك بإيقاعاتها الموسيقية المتميزة، التي تتعرف عليها الأذن مباشرة وتحدد من خلالها هوية الموسيقى. والموسيقى الخليجية هي اللون الأساسي الذي يقدمه الموسيقار عبدالرب إدريس، بتداخلاته مع الموسيقى العربية بشكل عام في مظلة أكبر وأشمل وأكثر اتساعاً، وكذلك بما يحتويه هذا اللون الخليجي من ألوان أخرى تتفرع عنه، كالموسيقى الحجازية والحضرمية وغيرهما من تفاصيل ودقائق هذا الفن الضارب بجذوره في أعماق بيئته وثقافته.
يتقن الموسيقار عبدالرب إدريس وسيلتين من أهم وسائل التعبير الفني، من حيث سرعة الوصول إلى المتلقي، وقوة التأثير والنفاذ إلى القلب والروح بشكل مباشر، بالإضافة إلى قدرتهما على تجسيد الهوية والترجمة عن الوجدان، هاتان الوسيلتان هما الموسيقى والغناء، فهو يعبر بموسيقاه عن كلمات الأغنية ومعانيها وجوها العام، من خلال المقاطع الملحنة والفواصل الموسيقية البحتة، والمقدمة الموسيقية في حالة الأغنيات الطويلة. ويعبر بصوته عن إحساس العاشق الذي تدور كلمات الأغنية على لسانه، وينقل إلى السامع ما يخالج نفس هذا العاشق من مشاعر حزن أو فرح أو هيام، أو لوعة انتظار وإلى ما هنالك. لكن الموسيقى تشمل الغناء لديه، وتعد هي وسيلة التعبير الأساسية التي ينطلق من خلالها، ومن أهم ما يميز موسيقاه هو جمال الميلودي أي الجانب الغنائي في الموسيقى نفسها، الذي يجعل اللحن يبدو غنائياً وإن لم يصاحبه كلام، وكذلك قوة الجانب الإيقاعي في الموسيقى، وحركتها المنتظمة وفق ترتيبات زمنية معينة. كما يتفوق عبدالرب إدريس في خلق الثيمات الموسيقية البديعة، التي تستطيع أن تأسر السامع وتستحوذ على مشاعره وأحاسيسه. عندما يغني عبدالرب إدريس نشعر بأن هناك منافسة جمالية بين صوته وموسيقاه، لكنها منافسة تجري في انسجام تام، حيث يدفع كل منهما الآخر إلى ذروة الإبداع، وتتلاقى ابتكارية ثيماته وميلوديته، وأصالة إيقاعاته، وسلاسة انتقالاته النغمية، ومهارة صياغته للعبارات الموسيقية، مع نبرات صوته العذب الذي ينساب رقراقاً بتمويجاته الهادئة الصافية، ووضوح لفظه وسلامة مخارج حروفه وحلاوتها، وبراعة انتقاله بين المقامات المختلفة داخل الأغنية الواحدة، ذلك الصوت الجميل الذي ترتاح النفس لسماعه وهو يتفنن في الطرب والتعبير عن المشاعر.
في موسيقى عبدالرب إدريس تتركز خلاصة الروح وملامح الأسلوب السعودي والخليجي، حيث قوة الطرب وتفرد النغمة الموسيقية والإيقاع، وتعدد ألوان الغناء وتنوع المقامات والموازين والإيقاعات، بارتباطاتها الجغرافية وأصولها التاريخية. ومن خلال الاستماع إلى عبدالرب إدريس، يمكن التعرف بشكل كبير على شخصية ومقومات الأغنية السعودية على وجه الخصوص، والأغنية الخليجية عموماً. على الرغم من سنوات دراسته الطويلة في القاهرة، لم ينفصل عبدالرب إدريس عن الذوق السعودي الخليجي بحثاً عن إرضاء ذوق آخر، ولم تتخل ألحانه عن كيانها الأصلي وعناصرها الأساسية التي تميزها عن سواها، فهي ألحان صادرة عن بيئتها متأثرة بها، متفاعلة مع محيطها، لكنه في الوقت نفسه يعمل على توسيع الآفاق الجمالية لموسيقاه، بحيث تصبح أكثر شمولاً وقدرة على الوصول إلى الجميع. قدم عبدالرب إدريس ولا يزال مجموعة كبيرة من الأغنيات متسعة الألحان، يعبر في أغلبها عن الحب والعشق والغرام بأسلوب شاعري مرهف وحس عاطفي رقيق، والملاحظ أنه يجيد خلق عناصر الإمتاع والجمال في أغانيه، وتوظيف تقنيات اللون الخليجي من المواويل والآهات والليالي والدانات، ومقامات الحجاز والحراب وغيرها من المقامات. ومن أهم سماته أيضاً اختياره للكلمة الشعرية البليغة، والمعروف أن الموسيقى في جزيرة العرب على وجه الخصوص، نبعت من الشعر وأوزانه وإيقاعاته وقوافيه.
تعاون الموسيقار عبدالرب إدريس مع العديد من الشعراء، لكن يظل الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، من أهم الشعراء وأكثرهم حضوراً في موسيقى عبدالرب إدريس، إذ لحن الكثير من أشعاره، منها ما غناه بصوته، ومنها ما نسمعه على لسان مطربين آخرين، كأغنيات محمد عبده (إلى من يهمها أمري)، و(الأرض)، و(الفجر البعيد) التي تقول بعض كلماتها: (نامت عيونك وصحى الليل مظنونك أغاني.. قصت جناح الثواني غيبتك وصارت الساعة أماني.. أنا حروفي في غيابك لا هي حكي ولا هي قصيد.. أكتب الظلما وأعيد.. وأنت يا الفجر البعيد نامت عيونك). وأغنيات المطرب الكويتي عبدالكريم عبدالقادر (آه يا الجراح)، و(يطري عليه الوله)، و(ظماي أنت). هذا بالإضافة إلى العديد من الأعمال المشتركة بين عبدالرب إدريس وبدر بن عبدالمحسن. ولا شك في أن أغنية (ليلة) تعد من أجمل ما غناه ولحنه عبدالرب إدريس من كلمات الأمير الشاعر، وحسب ما يروي عبدالرب إدريس في أحد حواراته التلفزيونية، فإن هذه الأغنية الرائعة كان مولدها في القاهرة، حيث التقى الشاعر والموسيقار واجتمعا ذات ليلة، حينها أسمع الموسيقار الشاعر لحناً كان قد ألفه قبل أن يجد له الكلمات المناسبة، وكان يدندنه على بضع كلمات أولية ألفها بنفسه لكي تحفظ الوزن لا أكثر. أعجب الأمير الشاعر باللحن الجميل الجاذب الأخاذ، وبدأ في الجلسة ذاتها يؤلف مطالع الكلمات التي لا تقل روعة وجمالاً عن اللحن، ثم عملا بعد ذلك معاً على إعداد الأغنية وإكمالها حتى ظهرت في شكلها الفني المعروف، الذي يحمل في داخله عناصر تجدده وديمومته، فلا يمل المرء من تكرار سماع (ليلة.. لو باقي ليلة في عمري.. أبيها الليلة.. وأسهر في ليل عيونك.. وهي ليلة عمر).

ذو صلة