مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مسرحية أنتيغوني ومنصة الفن والسياسة

في إطار فعاليات المهرجان العربي للمسرح في دورته الرابعة عشرة المقامة في بغداد؛ لفت عرض أنتيغوني من الأردن الأنظار من ناحية استخدامه المنصة للتوليف والتوفيق بين طرح المشكلات الفنية والسياسية في آن معاً.
مقاربة وتحليل درامي
يعتمد عرض أنتيغوني على المنصة بجميع أشكالها لخدمة أغراضه المختلفة. لكن، الملفت في استخدامها من الناحية السينوغرافية، هو شبه انعدام الأغراض أو الأشياء المسرحية على المنصة، بحيث بدت فضاءً فارغاً مُلئ بطريقة غير مباشرة، فاستخدمت الإضاءة والدخان للقيام بذلك ونقل الأجواء الكابوسية والمشاعر المحتدمة والمتنوعة بطريقة أكثر تعبيراً وأقل تعقيداً من استخدام الأغراض المسرحية. كما وملأ الممثلون فضاء المنصة بالحركة والتنقلات، بشكل أعطى ديناميكية للحدث وعكس احتدام الصراع.
من ناحية علاقة الإضاءة والمنصة، جاءت الأولى في خدمة الحدث الدائر فوق الثانية، حيث استخدمت الإضاءة بشكل رمزي، فلكل لون رمزية تتفق مع ما يحدث. جاء اللون الأحمر، على سبيل المثال، رمزاً للعنف والدم في مشاهد التعذيب، ورمزاً للثورة والصراع حين اصطدام أنتيغوني الثائرة مع سلطة خالها المطلقة. أما اللون الأزرق، فقد عكس حالة الحزن واليأس التي انتابت بطلة المسرحية حينما فشلت في التحرر والانعتاق واقتربت من الموت. كما استخدم اللون الأصفر في بداية المسرحية ليعكس عنفوان وقوة الشخصيتين الأساسيتين المحركتين للأحداث: أنتيغوني وكريون. هذا وقد أكد تسليط الضوء عليهما بشكل متقابل ومتواز تلك الحالة من توازن القوى واصطدامها.
ومما يسترعي الانتباه أيضاً استخدام تقنية المنصة فوق المنصة لعرض الأحداث السابقة للزمن الحاضر في المسرحية أثناء مناظرة أنتيغوني وكريون. ويعتبر هذا مثالاً مهماً عن تقنية (هيتروتوبيا الحدث المتزامن)، إذ لا تنقسم المنصة إلى اثنتين فحسب، بل إلى عالمين أحدهما في الزمن الحاضر للمسرحية والآخر في زمن ماض ومكان مختلف، ويتساوق الحدثان مع بعضهما في تدفق متصل ومنفصل في آن معاً. إذ تعرض المنصة (الحقيقية) أحداث المسرحية الراهنة لتقابلها الأحداث الماضية على المنصة (الدرامية)، والتي تم استعراضها لكشف الزيف الدائر في عالم المنصة الراهن أو (الحقيقي). كما يعلق كل من أنتيغوني وكريون على ما يشاهدانه ليتصل العالمان على المنصة لكن دون أن يختلطا، فعالم الماضي منحصر على المنصة فوق المنصة، أما الزمن الحاضر وعالمه فيحتل المنصة الأولى. ويعكس هذا الاستخدام جوهر الهيتروتوبيا، فالكلمة في الأساس تعني العالم المغاير أو العالم الآخر والذي يتصل بعالم (حقيقي) ليعكس صورته الحقيقية ويعريها بالنقد والتحليل. ويكمن أحد أهم جواهر الصراع في المسرحية في هذه التقنية، فأنتيغوني تسعى لكشف حقيقة تسلط خالها وتحكمه بالسلطة عن طريق ما تعرضه من دلائل على المنصة فوق المنصة، وهي هنا تحاول تجريد زيف العالم الذي يحيط بكريون، وهو أيضاً يحاول فعل الأمر نفسه. لذا، جسد استخدام الخشبة هنا مثالاً مهماً عن آليات فهم الفضاء المسرحي الهيتروتوبي، ولا يمكن إلا الثناء عليه.
كما ويمكن تناول النقطة نفسها من ناحية فنية مختلفة، فقد حولت الثنائية الفضائية على المنصة الممثلين إلى جمهور لا يختلف عن المشاهدين الجالسين في صالة المسرح نفسه. وتنكسر بذلك الحواجز بين العالم المسرحي والعالم الحقيقي، فالجميع مشاهدون (لعرض مسرحي)، وهذا ما يحطم الجدار الرابع القائم بين عالم المنصة وعالم الصالة ليقربهما بطريقة ضمنية من بعضهما. ويكمن في هذا الاستخدام، الجوهر الفني للمنصة، فهي ليست مجرد فضاء منفصل لعرض الأحداث، وإنما هي صلة الوصل في الحوار ما بين العالمين الحقيقي والفني، مما يجعلها في حد ذاتها عالماً وسيطاً بينهما، وهي بذلك فضاء هيتروتوبي أيضاً.
وبالتركيز على الناحية التواصلية، استخدمت مسرحية أنتيغوني المنصة للتواصل مع الجمهور بشكل مباشر، حيث خاطب طرفا الصراع الجمهور من أقرب نقطة على خشبة المسرح وبطريقة إلقائية إلى حد ما. وقد يعتبر البعض هذه التقنية نزعة خطابية مباشرة تسيء إلى جمالية العرض المسرحي، لكنها تخدم أيضاً فكرة التواصل بين عالمي المنصة والصالة. إذ عرض كل من أنتيغوني وكريون أفكارهما وقدما خطابهما بالأسلوب نفسه، وكأنهما يتركان لمختلف أفراد الجمهور التفاعل وفق رؤاهم الشخصية وتجاربهم، الأمر الذي ينفي الخطابية ويؤكد التواصلية. بعبارة أخرى، هناك تواصل متوازن ومباشر ما بين الشخصيات والجمهور دونما تغليب طرف على آخر، فالعرض يتوجه إلى الجمهور ليخاطبهم، ويتوجه لهم بأسئلة، ويناشدهم، ويبرر لهم الأفعال، وهذا أبعد ما يكون عن الخطابية، بل هو حوار مع عقول وعواطف المشاهدين ليترك لهم باب التحليل والاستنتاج عريضاً بعدها.
ينقلنا هذا الجانب إلى تحليل لغة الشخصيات متابعةً في دراسة الخطاب الذي قدمته المسرحية. وقد يبدو للبعض أن جوهر العرض هو التجسيد الرمزي للصراع السياسي بين القوى التحررية والأنظمة الشمولية التسلطية، وفي ذلك جانب مهم من الحقيقة، ولكنه ليس الأفق الوحيد في المسرحية. أنتيغوني بثيابها التي تشبه بذلات المقاومين والطليعيين الشباب هي بالتأكيد رمز للتحرر في مواجهة السلطة القمعية المتأنقة ببزات رسمية بيضاء كالتي يلبسها كريون. لكن، لا يختلف هذا الصراع عن أي من مثيلاته البعيدة عن السياسة، ألا يمكن الربط بين أنتيغوني وبين طموحات الشباب في مواجهة مجتمع يستتر ببزاته الرسمية خلف قناع من الأناقة والتمدن والحضارة ليمنع ويعرقل جميع محاولات التقدم والتغيير والثورة على ما بلى من العادات؟ بل إن تكرار كلمة (مسرحية) و(عرض) طوال الوقت من قبل كريون وأنتيغوني قد يأخذنا إلى تحليل أدبي للصراع ما بين قوى التجديد والتأصيل في عالم الفن، وهو حالة أشبه بالحتمية واجهتها الغالبية العظمى من المدارس الفنية الفتية في مواجهة ما تأصل في عالم الأدب.
وتعود بنا الفكرة الأخيرة إلى الرؤية التواصلية مع الجمهور، حيث تلجأ المسرحية إلى استخدام تقنية تأثير الاغتراب أو Alienation effect، وهي تقنية بريختية، نسبة إلى المسرحي الألماني بيرتولد بريخت Bertolt Brecht، تستخدم للفصل بين مشاعر الجمهور والعرض المسرحي، دعوةً لهم للتفكير منطقياً حول العرض. وبذلك، فإن تكرار كلمتي (مسرحية) و(عرض) ما هو إلا دعوة لتذكير الجمهور أن ما يشاهده هو عمل فني. ونتأكد بذلك من كون مسرحية أنتيغوني واعية لنفسها ولوجود الجمهور دون رفع الحواجز بينها وبين عالم الصالة أو الإغراق في الوهم المسرحي. لذا، تتحدث المسرحية عن نفسها وتؤكد طبيعتها الفنية في مقابل السعي للتواصل مع الجمهور ومخاطبتهم، فهي دعوة لتذوق العمل فكرياً ومنطقياً، لتظهر هنا فكرة تقديم الأفكار بأسلوب متوازن مرة أخرى.
وبالحديث عن خطاب الشخصيات، يمكن القول إن الصراع بين أنتيغوني وكريون، هو صراع لغوي في جله، حيث يتواجهان جملةً بجملة، وفكرةً بفكرة في محاولة لدحض الخطاب الذي تستخدمه الشخصية الأخرى. لكن أشد ما يسترعي الانتباه هو المفارقات في خطاب كريون، والتي جاءت مدروسة بحيث فضحته لغته في أعين الجمهور دونما تعمد أو ابتكار للأحداث التي قد تؤدي الغرض نفسه. على سبيل المثال، يقول كريون (ما من صحيح إلا ما يكتبه المرء)، وهي مفارقة تشي بكذبه وأنانيته وتنافي قواعد نقد الخطاب، فما يكتبه المرء هو أبعد ما يكون عن الصدق والموضوعية التي تقومها وتدرسها وتحاكمها نظرات الآخرين وآراؤهم. ولا تتعدى جملته هذه أن تكون انعكاساً للخطاب السلطوي ولمغالطته الشهيرة: التاريخ يكتبه المنتصرون، حيث لا يمكن دراسة تاريخ المنتصر من وجهة نظره فقط لأنه تمجيد ذاتي ليس إلا، ولذلك ليس بصحيح كل ما يكتبه المرء.. يعود بعدها كريون للوقوع في فخ آخر أثناء مشهد تعذيب أنتيغوني حينما يقول لها (بمنطق) إنه يتفهم موقفها! أي منطق أو تفهم يكمن في تعذيب إنسان ومحاورته وتقبل رأيه؟ إن كان هناك تفهم وقبول فالتعذيب بالأساس لاغٍ، لكنه منطق السلطة بكافة أشكالها: السياسية والاجتماعية والفنية، إنه منطق الذئب الشفوق والجلاد العطوف!
وتحيلنا هذه النقطة إلى آخر أفكار هذا التقديم الموجز لمسرحية أنتيغوني، ألا وهي رمزية المشهد الختامي. تعود اللغة إلى دائرة الضوء مع إعدام أنتيغوني، فخطاب كريون السلطوي النمطي استمر في الضعف حتى التلاشي، وهذا يرمز إلى تراخي جميع أشكال القمع، كما ويشير إلى نمطية الخطاب فكلامه وصمته واحد. على المقلب الآخر، يترافق خطاب كريون المنطوق والصامت مع امتداد ذراعي أنتيغوني المقتولة نحو السماء، ويرمز ذلك إلى الأمل والانبعاث، وإن يكن ضعيفاً وموءوداً في اللحظة الراهنة.
كلمة ختامية
لا بد من الإشادة بالعرض وبجميع خصوصياته وتقنياته الفنية والدرامية، رغم ما قد يبدو للعين من مباشرة أو خطابية، فهي بحد ذاتها إحدى تلك التقنيات. كما لا بد من التنويه بأداء الممثلين، إذ أجادوا جميعاً أدوارهم، لكن تفوقت خبرة الممثل الذي لعب دور كريون على أداء زميلته في العمل التي لعبت دور أنتيغوني، حيث تنوعت ردود أفعاله بما يتناسب مع قالب شخصيته، في حين اكتفت الممثلة بنبرتين فقط: غاضبة وحزينة، مما حد من تنوع الشخصية رغم أدائها الجميل. ويلزم القول هنا إن ردود الأفعال حول الأداء متباينة دوماً، إذ قد يرى البعض نمطية في أداء الممثل وإقناعاً في أداء زميلته، ولا يعدو التنويه بأدائهم إلا وجهة نظر تسعى للمنطقية في تحليلها. بالعموم، استطاعت مسرحية أنتيغوني الوصول إلى دخيلة وأفكار الجمهور وملامسة واقعها، فحققت بذلك الأهداف التي تسعى إليها جميع العروض الرصينة.

ذو صلة