مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مذكرات جندي شاب.. سيرة شخصية لرجل عادي في جيش الحملة الفرنسية على مصر 1798

جوزيف لابورت شاب فرنسي، التحق بصفوف الجيش الفرنسي مراهقاً في سن الثالثة عشرة، دون أن يُخبر والديه. تطوع بادئ الأمر موسيقياً لمدة أربع سنوات ونصف، ثم مقاتلاً في الخدمة الميدانية لخمس سنوات أخرى. لا يُعرف الكثير عن نشأته سوى تاريخ مولده سنة 1780.
بقيت مذكرات لابورت طي النسيان حتى سنة 1996 عند اكتشافها، ومن ثم شراؤها من مالكها لتعرف أول نشر لها على شكل مخطوطة مصورة في عام 2008، عن طريق (مجموعة سورس) بدعم من مؤسسة تعنى بنشر الكتب والوثائق، هي مؤسسة (مارتان بودمير)، ومقرها في جنيف. قبل أن تصدر الترجمة العربية للكتاب سنة 2018 عن الهيئة العامة للكتاب في دمشق، ترجمة: د.محمود المقداد. ووفقاً للمترجم فلا يُمكننا اعتبار ما تركه لابورت في مذكراته (تاريخاً تحليلياً) بقدر ما هي انطباعات ومشاهدات لما خبره بأم العين.
هل يجب أن نصدق لابورت؟
يشير المترجم إلى أخطاء وهفوات وقع بها لابورت لغوياً وتاريخياً، نظراً لحداثة سنه، وعدم استكمال تعليمه، رغم (نضج يومياته). لكن الواضح هو ولعه وإعجابه الشديد بشخصية الجنرال بونابرت، حيث نجده يقول: (وأجرؤ أن أؤكد أن قلبي يرتعش فرحاً على أن لواءنا قد اختير من قبل القائد العام ليكون جزءاً من الحملة).
تحتوي المذكرات، وهي التي ستغدو من أهم وثائق الحملة التي تعبر عن طموحات استعمارية فرنسية مبكرة للتوسع وإنشاء إمبراطورية كبرى، بعد تسعة أعوام من الثورة الفرنسية؛ على ملاحظات مهمة عن أحوال بلاد الشام ومصر وطبائع أهلها وعاداتهم. ويؤكد مراراً خلالها على صدقية روايته قائلاً: (هنا تنتهي نهاية رحلتي التي يمكن الثقة بها ثقةً تامة، لأنني لا أمتلك أي دافع لبتر الحقيقة). ويدافع عن ذلك بربطها مع ما رواه الكابتن جوزيف ماري مواريه في مذكراته، من خلال عدة عناصر: (الطموح الفردي لنابليون، معاناة جنود الحملة والتخلي عنهم، الأسلحة وبيانات الحرب، تحليل شخصيات القادة).
تتداخل تلك الحقائق السابقة، روح الذاتية الواضحة لدى لابورت بين الشعور الوطني والحنين لفرنسا، والأحوال الأليمة للجنود التي وصلت حد اليأس، فيقول: (كان الجندي الذي ينهشه العطش الملتهب مستنزفاً جداً ومتعباً جداً من العيش). ويتابع: (كان القادة يستنزلون ألف لعنةٍ على مُعدي الحملة، كانوا يفضلون الموت سريعاً على الحالة الرهيبة التي وجدوا أنفسهم فيها).
حقيقة الحملة وهيبة التاريخ
تنسجم رواية لابورت مع الآراء التاريخية التي تُبين الأهداف المعلنة وغير المعلنة للحملة، وتأتي على رأسها الدوافع الاستعمارية التوسعية، وخدمة التجارة الفرنسية في إطار التنافس الأوروبي والتزاحم على السيطرة، ولاسيما مع الإنجليز، وتحويل المتوسط لـ(بحيرة فرنسية). هذه الغايات التي أوضحها نابليون في بيانه العام قبل بدء الحملة قائلاً: (أيها الجنود، ستقومون بغزوة سيكون لها بالغ الأثر على (الحضارة) و(التجارة) في العالم، وستكون أكبر ضربة توجه لإنجلترا، في انتظار أن تقضوا عليها بالضربة القاصمة).
ولم ينسَ بيان نابليون الانتقام من المماليك الذين (يفضلون (التجارة) مع الإنجليز دون سواهم). وهم الذين (أمعنوا في إذلال مفوضينا). كل ذلك إلى جانب التسويات السياسية الداخلية من قبل حكومة المديرين التي رغبت بإزاحة نابليون خارج فرنسا. يشير لابورت إلى طموح نابليون بشكل واضح حين يقول: (هو الذي (أي نابليون) قادنا إلى هُنا، فقد جاء ليصنع لنفسه عرشاً من عرقنا ودمائنا).
وصلت الحملة إلى مصر، وفي صباح الحادي والعشرين من تموز/يوليو 1798، استعد جيش نابليون للصدام الأول مع المماليك الذين كانوا يحكمون شعب مصر باسم العثمانيين. بالنسبة لكاتب المذكرات لابورت كانت تلك لحظة فارقة، فنراه يقول: (وعندما أضاءت شمس الأفق أهرامات (الجيزة)، فتوقف الجيش بعفوية لتحيتها، لأنها كانت لأول مرة تمثُل لأنظارنا المندهشة). هذا الشعور بالتصاغر الذي يصفه لابورت أمام عظمة مصر بين العراقة التي تمثلها والحداثة الفرنسية؛ كان له مفعول الصدمة الكهربائية من قبل أفراد ينتمون لأمة ناشئة، وهم ينظرون لأمة عريقة. وما نشأ عنها من صدام حضاري يستفيض لابورت في الحديث عنه بين إسلام لم يتغير منذ قرون، وفلسفة التنوير (الفولتيرية) التي تبناها الجيش الغازي. ويروي أيضاً كيف بُهر المصريون بالأسهم النارية التي أطلقها الفرنسيون، أو ببالون محلق في السماء، واتهموهم بممارسة السحر والشعوذة.
رغم هذه الصورة الرومانسية، لكنه يصف الفقر والفوضى ومظاهر التخلف الموجودة في القاهرة آنذاك، وشوارعها المغبرة الضيقة والمتعرجة، وبازار النخاسة فيها الذي يباع فيه العبيد من الذكور والإناث. ويوضح الفوارق الكبيرة بين حال العامة وأهل السلطان من المماليك، ويتحدث عن بيوتهم التي اتخذوها منازل لهم. ويصف أيضاً عقائد أهلها من مسيحيين ومسلمين (محمديين)، ويقول عنهم بأنهم (شديدو التدين). وأن لهم أربعة مفتين للمذاهب الأربعة المختلفة.
وصف قادة الحملة واستغلال جنودها
الجانب الأكثر إثارةً في مذكرات لابورت هو مقارنته بين قادة الحملة الثلاثة. بالنسبة لهُ كان نابليون داهية، حمّال نبوءة ستقوده إلى انتصارات عسكرية لاحقة، فكأنه والقدر يسيران في ركب أبدي واحد. أما كليبر تظهر لديه شخصية المحارب الواثق من موهبته وكفاءته العسكرية، والذي أيضاً يسعى لتحقيق النصر دون خسارة جنوده.
أما ثالثهم مينو فيعرفه لابورت بالفيلسوف الذي لا يحفل بالمصالح القومية الفرنسية، وبجنوحه إلى المسالمة بدلاً من العنف، ما يدلل على ضعفه قائداً عسكرياً. بالنسبة للجندي لابورت فقد كان مع زملائه كثير التحسر على رحيل نابليون أحياناً لما كان له من هيبة ودهاء. لكن بعد انكشاف (أنانيته) نراه يجنح نحو كليبر الذي يصفه بـ(الجنرال الشجاع) و(الرجل المفعم بالإقدام)، كان يرعى جنوده على عكس بونابرت. واصفاً إياه بمثابة الأب لهم.
أما مينو فعلى الرغم بما تمتع به كسلفه كليبر إلا أن لابورت يأخذ عليه تردده وضعف تكتيكه العسكري. رغم كونه (إدارياً ممتازاً). إضافة للانشقاقات التي حدثت في صفوف الحملة خلاله فترة قيادته، تحديداً بعدما أعلن إسلامه، وتسميته نفسه (عبدالله مينو)، وزواجه من سيدة مصرية تُدعى زبيدة.
وفي جانب آخر، يكثر لابورت في وصف معاناة الجنود المغرر بهم، الذين وقعوا ضحية أنانية نابليون، ويعددها في عدة أوجه من القتل والاضطرابات النفسية المؤدية للانتحار، والإعاقات الحربية، والأمراض، والعطش ونقص المؤونة التي اضطرتهم إلى أكل لحم الحمير والكلاب والجرذان في بعض الأحيان، وأكل نبات الحميض والسلاحف.
تشويه صورة سليمان الحلبي
وفقاً للنظرة السابقة التي يقدمها لابورت عن قائد الحملة الثاني الجنرال كليبر، عن سليمان الحلبي، إذ وضعه في خانة المجرمين، ولذلك كان من الطبيعي أن يصفه بأنه كان موعوداً بجائزة أو مُهدداً من قبل آغا الانكشارية، والعمل الذي قام به الحلبي باغتيال كليبر جاء ردة فعل على المظالم التي وقعت بحق العرب وأهل مصر. بينما يقدمه بيان الجنرال مينو الذي تولى قيادة الحملة بعد كليبر بأنه تم وضع الخنجر على عنقه ليقوم بعملية الاغتيال.
ويصفه البيان بالشخص المتعصب، ويذكر البيان الذي ينقله لابورت أنه (أي الحلبي): (مانع طويلاً، ثم إنه -بالضغط عليه بتهديده في جائزة مرموقة- عزم على قبول ذلك، لأن أباه كان فقيراً). ثم نلحظ تناقضاً واضحاً في رواية لابورت نفسه، عندما يصف تعذيب الحلبي وإحراق يده ثم (خورقته)، وأنه بقي على قيد الحياة خمس ساعات، ويصفه بالشجاع المنقطع النظير. وهذا برأي المترجم لا يكون من عبد أو مرتزق مهدد، ولا يزال الفرنسيون يحتفظون برأس الحلبي في خزانة زجاجية ضمن متحف الإنسان في باريس.
ومهما يكن من أمر هذه المذكرات إلا أنه تعود أهمية ما أورده لابورت عن تاريخ الحملة كونها تمثل (تاريخاً شخصياً) لرجل عادي، خلافاً للتأريخ الرسمي المعروف الذي يلخص أي حدث في إطار القادة وروحهم الشهوانية للمجد الشخصي على حساب جنود مجهولين لا نعرف حتى أسماءهم. وما يذكره من تفاصيل عن أحداث ومعارك ومشاهد دموية وصراعات مع العثمانيين والمماليك والإنجليز من جهة، وأهل البلاد من جهة أخرى، وعذابات وأوهام طغت عليها النزعة الأنانية السابقة.

ذو صلة