مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الأراضي الحجازية في المخطوطات المغربية

لا توجد في جغرافيا (المسالك والممالك) أرض حظيت بعناية الناس، واهتمام الرحالة والمؤرخين كالطرق الكبرى والصغرى المؤدية للأراضي الحجازية. خُطت فيها مخطوطات، وصُنفت فيها مصنفات، ورُويت عنها مشاهدات، ودبُجت فيها قصائد شائقات حافلات بوصف المراحل، ظعناً وإقامة، حلاً وترحالاً. (فكر جغرافي) كاشف عن كثير من الحقائق الطبيعية والبشرية والعلمية إبان القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة.
و(الإنسان جغرافي بطبعه)، وعديدة هي المخطوطات المغربية التي وثقت لمظاهر (طوبوغرافية) وأوضاع الحياة الاقتصادية والبشرية والعلمية، وأحوال (اختراق حاجز المسافة) ما بين الأراضي المغربية وصولاً للأراضي الحجازية. فمن هذه المخطوطات: (أنس الساري والسارب من أقطار المغرب إلى منتهى الآمال والمآرب)، لـ(محمد بن أحمد الملقب بابن المليح)، الخزانة العامة، دار الوثائق، الرباط، ك. 2341، حج عام 1040 هـ، و(الرحلة العياشية) لأبي سالم العياشي، المكتبة الملكية بالرباط رقم 156، حج عام 1074هـ، و(هداية الملك العلام إلى بيت الله الحرام)، لأحمد الهشتوكي، الخزانة العامة بالرباط، ق. 190، حج عام 1096 هـ، و(الرحلة الكبرى) لأحمد بن ناصر الدرعي، الخزانة العامة بالرباط، د. 1291، حج عام 1121 هـ، و(رحلة القاصدين، ورغبة الزائرين) لعبدالرحمن بن أبي القاسم الشاوي، المكتبة الملكية بالرباط، 5606، حج عام 1141هـ، و(رحلة الوزير الإسحاقي) لأبي محمد الشرقي الإسحاقي، المكتبة الملكية بالرباط، 1428، حج عام 1148 هـ، و(بلوغ المرام بالرحلة إلى بيت الله الحرام) لعبدالمجيد بن علي الملقب بالزبادي، الخزانة العامة بالرباط، ك.398، حج عام 1148هـ.، و(رحلة إلى الحرمين الشريفين)، لأحمد اللكوسي الحضيكي، الخزانة العامة بالرباط، د. 896، حج عام 1152 هـ، و(الرحلة الحجازية) لأبي مدين أحمد بن الصغير الدرعي، الخزانة العامة بالرباط، ق. 297، حج عام 1152 هـ، و(الرحلة الكبرى) لمحمد بن عبدالسلام الناصري، الخزانة العامة بالرباط، د. 2651، حج عام 1196 هـ، و(إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام)، لمحمد بن عبدالوهاب بن عثمان، المكتبة الملكية بالرباط، 5264، حج عام 1200هـ.
والمتأمل في هذه المخطوطات المغربية يلحظ أن الطريق الذي كانت تعبره قوافل الحجاج بين (العقبة) و(مكة) لم يتغير طيلة هذين القرنين. طريق يقدر طوله بنحو 1150 كم تقطعه القوافل خلال شهر تقريباً مرتحلة عدة مراحل، أهمها: بعد خليج العقبة، حفائر النخل وظهر الحمار وعش الغراب ومغاير شعيب ومدين والمويلح وبندر والأزلم وإصطبل عنتر وبندر الوجه واكره والعقبة الزرقاء والحوراء والعقيق والنبط والنار والينبوع والسقائف وبدر ومستورة ورابغ وقديد وخليد وعسفان ووادي العميان ووادي الشريف ومكة المكرمة. وأما الطريق من (مكة) نحو (المدينة المنورة) فكانت القوافل تسير من نفس الطريق حتى (بدر) ومنها تتجه نحو الجديدة والنازية والعريش فالمدينة المنورة. ويعرف الطريق بـ(الطريق السلطاني). وتقطعه القوافل خلال ما يزيد عن عشر مراحل. ومن (المدينة المنورة) تتجه القوافل نحو الينبوع فخليج العقبة. وأما الطريق بين (مكة) و(جدة) فتقطعه القوافل في مرحلة واحدة. وما بين مكة والطائف فخلال يومين لوجود المرتفعات الجبلية: (والطريق من مكة إلى الطائف فيها قهاوي ويستريح المارة بالنزول فيها واشتراء ما يحتاج من طعام وعلف. أخذنا في صعود الجبل العظيم. وغالب الطريق في هذا الجبل قد نقر من الصخور العظام وتصدت الحجارة فيها ببنا، رشيق مصفح. وفي هذا الجبل أشجار عظيمة من العرعار وغيره. ورأينا القرود تصيح وتثب في أعالي تلك الصخور فتعجبنا من ذلك، ثم سلكنا في شعاب ذات مياه غزيرة، إلى أن وصلنا إلى قرن الثعالب وبإزائه قرية ذات مزارع وأشجار من أنواع الفواكه، إلى أن وصلنا بلد الطائف). (العياشي، ص: 116، ج2).
وتكشف المخطوطات المغربية عن طبيعة المنطقة الواقعة ما بين (خليج العقبة)، و(مكة المكرمة)، حيث كان على القوافل سلوك طريق خاص يضيق شمالاً لاقتراب السلاسل الجبلية من البحار، ويتسع كلما اتجهنا نحو الجنوب. فالطريق الساحلي من (خليج العقبة) إلى (عش الغراب) تكثر به المرتفعات والوهاد وتعبره القوافل في ممرات. ولا تخلو بعض نواحيه من وجود إحساء ونخيل. وتكاد تجمع المخطوطات المغربية على أن (العقبة) هي (أول أرض الحجاز.. فإن من هنالك تخالف الأرض ما قبلها وتباين الجبال ما سواها ويشتد شبهها بجبال الحجاز السود ويتقوى الحر وتسترمل الأرض) (العياشي، ص: 176). والطريق بعد العقبة (ثم ارتحلنا من العقبة وسرنا في مسلك ضيق بين البحر والجبل لا يمر به إلا جمل إثر جمل، كأنه متن الصراط إلا أنه غير مستقيم). (الدرعي، ص: 91).
أما من (عش الغراب) إلى (عيون القصب): فتصبح الطريق داخلية بوجه عام، تكتنفها مرتفعات جبلية (ومن هنا لا يرى البحر إلى عيون القصب بعد ثلاث مراحل بين جبلين في أرض كثيرة الغبار تسمى وادي القر لبرودته، وهو طويل متصل إلى مغارة شعيب وليس به ماء). (الناصري، ص: 203). ومن أهم مناطق هذه المرحلة مغارة شعيب التي توجد (بها مياه جارية عذبة طيبة خفيفة وفيها مرعى للإبل والبغال) (الصغير الدرعي، ص: 108). أما مدين فهي (بلدة بساحل البحر كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة) (الصغير، ص: 108). وتصف المخطوطات الطريق من (المويلح) إلى (الوجه): الطريق ساحلية تتدفق في بعضها المياه الغزيرة، كما تنتشر أشجار النخيل ولا تخلو بعض مناطقها من زراعة بعض الحبوب. بينما تتوافر في هذه المرحلة أربعة موانئ هي بالتوالي: (المويلح)، و(الأزلم)، و(إصطبل عنتر)، و(الوجه). وحين تسير القوافل من (امره) إلى (الينبوع): تصبح الطريق داخلية وتشتد حرارتها ولا توجد فيها عمارة. وتسمى هذه المرحلة بـ(طريق الأودية) من أهمها: وادي واكره، والعقيق، والنبط ، والنار: (هبت على الناس ريح السموم وتسقيم من نضيج اليحموم واشتد الحر وتوالى الكر على الناس واشتد العطش على الرجال فبركت الإبل وفرت لظلال الأشجار). (الدرعي، ص: 95).
لكن يبقى الطريق بين (المويلح) و(الينبوع) من أهم المراحل (فلا عمدة للحجاج في طعام ولا في علسفوي الماء عند الحاجة إليه وجله قبيح فلا ينزلون في المفاوز إلا النزول المعتاد الذي لا يحصل دونه المراد ويسمونها اليوم العاشرية لأنها عشر مراحل متوالية لا إقامة فيها). (الزبادي، ص:66). وتصف المخطوطات الطريق من (الينبوع) إلى (مكة المكرمة) بأنه طريق داخلي، آهل بالسكان وتغزر به الينابيع والأراضي الزراعية: (الينبوع أول بلاد الحجاز العامرة فيها قرى كثيرة ومزارع ونخيل وعيون جارية. وهذا العمران متصل نحو ثلاثة أيام). (العياشي، ص: 176). ومن أشهر أودية هذه المرحلة: (رابغ)، و(وادي العميان)، و(الزاهر).
اقتصاديات المنطقة
في إطار (المعرفة الجغرافية) في شقها الاقتصادي، تعكس المخطوطات -بـ(عينها المبصرة)- أوضاع الحياة الاقتصادية في هذه المنطقة من زراعة ورعي وتجارة ومواصلات إلخ. ومهما قيل عن قساوة الطبيعة فإن سقوط الأمطار في بعض الفصول ووجود ينابيع المياه الجوفية بالإضافة إلى سهولة استخراج الماء من الآبار تساعد جميعاً على إنتاج أنواع مختلفة من المزروعات وعلى تربية أعداد من الماشية (وهذه البلاد الحجازية مطرها قليل وإن نزل كان طوفاناً في لحظة لكثرة الجبال والأودية والشعاب المتطاولة بها). (الناصري، ص: 210). هذا فضلاً عن وجود أراض صالحة للزراعة (وعادة أهلها كغالب أودية الحجاز يزرعون ماء المطر في الأماكن التي يستنقع فيها الماء). (الناصري، ص: 230). ومن الأمثلة التي ساقها الرحالة عن خصب بعض المناطق ومنتوجاتها: مزارع (مدين) (فعادة أعراب مدين أي تتسوق الحجاج هناك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه). (الدرعي الصغير، ص: 108). و(تبوك) حيث توجد (بساتين وكان أهلها يأتون بالرمان والعنب ويبيعونه للحجاج) (ابن عثمان). وفي (الينبوع) و(بدر) و(رابغ) (تزرع فيه مقاتي كثية ودخن وذرة وهو من أخصب أودية الحجاز). (العياشي، ص: 185). أما أراضي (القديد) فتنتج الفواكه المختلفة وبه (دلاع جيد رخيص ويسمونه بلغتهم حبحب ولا يكاد ينقطع شتاء ولا صيفاً إلا في السنة الجدبة). (العياشي، ص: 186). وفي (وادي الشريف) (قرى متعددة ذات نخيل وبساتين وعيون تجري وأعظمها القرية التي ينزل فيها الحاج وفيها سوق وعين كبيرة وبساتين مؤنقة). (العياشي، ص: 187). وفي (وادي الزهر) (جنان مكة آبار وأشجار وخضراوات). (العياشي، ص: 189).
وتعرفنا المخطوطات بضواحي (المدينة المنورة) حيث توجد (فواكه في غاية الجودة خصوصاً عنبها ورطبها وأما الخضر فأكثرها وجوداً الجزر والباقلا والملوخية والبامية والبصل واللفت). (العياشي، ص: 301). وفي منطقة (آبار علي) توجد (آبار كثيرة عذبة باردة تسقى بها نخيل عليها وخضر كثيرة سيما الباذنجال الكثيرة والقرع بأنواعه الجيد). (الناصري، ص: 289). ثم (نمشي في أرض متسعة خصبة تجتمع إليها سيول كثيرة وتزرع فيها مقاتي متنوعة تسمى برقة). (الناصري، ص 232). ويصف مدونو المخطوطات (الظهران) بأنه (واد كبير به قرى ونخيل وبساتين وفواكه وخضر وعيون عذبة، تقام به سوق عظيمة، ومنه يحمل لمكة أودية من الفواكه والخضر). (الناصري، ص: 232). وتتعدد المناطق الخصبة في الطريق من (مكة) إلى (الطائف) (وادي نعمان.. واد عظيم أفيح، به أدواح يانعة وقد كساه الخصب ألواناً، وبإزاء قرن الثعالب القرية ذات مزارع وأشجار من أنواع الفواكه). (العياشي، ص: 116، ج 2).
وعلى وجه العموم (أكثر المقاتي في بلاد الحجاز إنما تزرع على ماء المطر في الأماكن التي يستنقع فيها الماء). (العياشي، ص: 186). لكن من نماذج الري التي أثارت الانتباه حيث (سيق الماء في قنوات محكمات من العين ينفجر في مواضع للسقي، إلى أن خرج الماء إلى بركة عظيمة تحت القرية، ثم يخرج الماء من البركة إلى مزارع قرية من البلد). (العياشي، ص: 186).
تربية الماشية وتجارتها
أما تربية الماشية فتقوم بها مجموعة من القبائل التي تتنقل في البادية إلى حيث الكلأ والعشب. وقد سجل بعض الرحالة حالات مختلفة للمتاجرة بين هذه القبائل وقوافل الحجيج: (ونزلنا بندر الأزلم ووجدنا شرذمة من الأعراب يبيعون الغنم، ولما بلغنا العقبة السوداء، تلقت الأعراب الركب بكثرة السمن واللبن والخرفان للبيع) (الدرعي، ص: 96). وكثيراً ما تستعد هذه القبائل لمواسم الحج (وأخبرت أن العرب يستعدون لذلك في أول السنة فيحصدون في البادية أيام الربيع وييبسونه وينفعلونه إلى قرب الأمطار حتى تأتي الركبان فيجتمع لهم من ذلك ما يقوم بكفاية سنتهم). (العياشي، ص: 300). كما أن متاجرة أعراب البادية مع المدن لا تنقطع (ومن عادتهم في الشراء من الأعراب الذين يجلبون اللبن والجبن والسمن والغنم أن يشتري منهم قوم من الأعراب الساكنون بالمدينة وأطرافها.. فيدخلونه الأسواق ويشتري منهم أهل المدينة). (العياشي، ص. 300).
مراكز تجارية نشطة
وتوضح المخطوطات بجلاء ما للتجارة من أهمية كبرى في النشاط الاقتصادي بهذه المنطقة. فجميع المراكز التي كانت تحيط بها الرحال هي أسواق تجارية بالدرجة الأولى: (أعراب مدين.. تسويق الحجاج هناك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه). (الصغير، ص: 108). وأهل تبوك (يأتون بالرمان والعنب ويبيعونه للحجاج). (ابن عثمان). وفي (الينبوع) يوجد أهم سوق في (القرية التي ينزل بها الحاج. وتعمر هناك سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج). (العياشي، ص: 178). وفي (بدر) (أسعارها في الغالب أرخص من غيرها مع صغرها وانقطاعها عن البلاد). (العياشي، ص: 183). وفي الفروع قرى متعددة متفرقة ذات نخيل وظل ظليل وعيون جارية عذبة. وقامت بين أهله وبين الركب سوق عظيمة في المحتاج من زرع وغنم وعنز). (الناصري، ص: 287). وإلى جانب تجارة المزروعات والغلال هناك تجارة الأسماك والجواهر (وسرنا فنزلنا الحوراء، وبها الجبل المنقطع في البحر يسكنه أعراب كثير عيشهم صيد السمك وقد باعوا في الركب منه كثيراً. وهم يغوصون في بعض الأحيان بمكان قريب منهم في البحر فيقعون على جواهر نفيسة يشتريها منهم بعض من مر بهم من الحجاج بثمن بخس). (الناصري، 212). وأعظم المراكز التجارية في المدن الأربع: مكة والمدينة وجدة والطائف، ومن أهم أسواق (مكة): (المروة) (ثم أتينا المروة في زحام كثير في السعي لأنه من أسواق البلد العظيمة). (العياشي، ص: 192). وفي (جدة) (أسواق ممتدة مع جانب البحر وغالبها أخصاص واسعة متفتحة إلى البحر). (الدرعي، ص: 132). أما (الطائف) ففيها (أسواق حافلة يحضرها الناس من أطراف نجد ويجلب إليها الحبوب والثمار والزبيب والعسل ما قضينا العجب من كثرته بحيث يخيل إلينا أننا لم نر مثل ذلك في الكثرة في الأسواق العظيمة). (العياشي، ص: 116، ج 2).
وسائل المواصلات
هناك الرواحل من القوافل، وقد كانت (من عاداتهم في أكرية الرواحل من القوافل الذاهبة إلى مكة والينبوع أن بالمدينة رجالاً يعرفهم غالب الجمالين فمن احتاج الكراء من أرباب الدواب أو أرباب السلع أتى إليهم فيعقدون له الكراء مع صاحبه ويتكلفون بما عسى أن يصدر من الجمال من غدر في الطريق بهروب أو مكر. ويأخذون بذلك حلاوة من الجمال ومن المكري وذلك دأبهم بمكة أيضاً). (العياشي، ص: 300). أما كيفية السير (فصرنا نرحل عند الزوال وننزل عند الفجر والشروق على حساب ما اقتضاه الحال) (الزيادي، ص: 55). وكثيراً ما كانت بعض مراحل الطريق والوعرة منها تنظم بشكل خاص (فسلكنا طريق المصانع. والمصانع (سواري) مبنية في سبخة لا يظهر فيها أثر الطريق فجعلوا تلك الأعلام البنية دليلاً عليها وجعلوا في رؤوس الأبنية حجراً طويلاً خارجاً إلى ناحية الطريق ليستدل به الماشي ليلاً وربما علقوا على بعض الأعلام مصابيح بليل وبين كل علم وعلم نحو فرسخ أو أقل حتى انتهوا إلى راس وادي الرمل). (الزيادي، ص: 56). ولا تخلو بعض المراحل من أماكن خاصة يستريح بها الحاج (والطريق من مكة إلى الطائف فيها قهاوي ويستريح المارة بالنزول فيها واشتراء ما يحتاج من طعام وعلف كما ذلك بطريق جدة. وقد آوانا الحر إلى قهوة بأصل الجبل بين صخور عظام حولها ماء صاف عذب بارد سهل التناول للصادر والوارد). (العياشي، ص: 116، ج2).
وفي الموانئ توجد السفن التي تربط بلاد الحجاز بالمناطق المجاورة لها، كميناء المويلح (وبه مرسى حسنة تنزل بها السفن القادمة من سويس والقادمة من جدة) (الدرعي، ص. 93). وميناء الحوراء (مرفأ سفن مصر) (الناصري، ص: 212). ترسو بينبوع البحر ما كان منها للمدينة) (الناصري، ص: 215). ويعد ميناء جدة الأول في بلاد الحجاز (فهي من أعظم البقاع وهي مدينة ممتدة مع ساحل البحر نحو ميلين وفي مرساها سفن كثيرة كبار وصغار وغالبها معمول بالشريط بصنعة عجيبة ليس فيها مسمار وهي مع ذلك كبيرة المقدار واسعة الأنحاء تحمل أضعاف ما يحمل غيرها في السفن). (العياشي، ص. 104، ج 2). وإلى جانب ما تقوم به الموانئ من دور في المواصلات يتوفر كل منها على (حصن كبير فيه عسكر وأمين ويخزن فيه الميره). (الدرعي، ص. 93). (وشأن هذه البنادر أن يخزن فيها الطعام على الدوام ليجده الركب في الذهاب والإياب ويترك الناس فيها ما استثقلوه من الأزودة والأطعمة إلى الرجوع ولولا لطف الله بالعباد بوجود هذه البنادر لما قدر أحد على سلوك هذه الطرق لكثرة مخاوفها وقلة مرافقها). (الزيادي، ص. 56).
الأسعار والعملة وأنواع المكاييل
في موسم الحج تعيش البلاد ظروفاً خاصة (فلا سعر معلوماً ولا مكيال وافياً ولا ميزان صحيحاً، كل يفعل ما يشاء ولا يتكلم الولاة في شيء من ذلك). (العياشي، ص: 285). وبعد انقضاء أيام الموسم (رجعوا إلى معتاد حالهم في الأمور الدنيوية من الفلاحة والتعسير في الأسواق وتصحيح المكاييل والموازيين). (العياشي، ص: 285). وترتفع الأسعار أيضاً في الفصول غير الممطرة (ولم تزل الأسعار على ما تقدم من الغلاء إلى أن هجم الشتاء وقرب زمن الربيع فلانت الأسعار وكثر اللبن والجبن في الأسواق). (العياشي، ص: 302). وعن أثمان بعض الحاجيات (كان القمح ثلاثة أصاع بريال. أما الثمر فنحو أربعة أصاع بالريال والشعير ليس بينه وبين القمح إلا يسير تفاوت.. والعسل اشتريت رطلاً منه بقريب من ثلث الريال.. وأما الفواكه، العنب بثلاثة مائدية للرطل.. واللبن يباع بمائدتين للرطل). (العياشي، ص. 302). أما العملة المستعملة فكانت: الدينار الذهبي والريال الفضي والقيراط المسكوك من الفضة والقرش والمائدية. وكان الريال يساوي 50 قيراطاً. وعن المكاييل هناك: الصاع أو الربعي وأجزاؤه الركيله.
العمران البشري في الأراضي الحجازية
رغم الأحوال الصعبة للحياة في المنطقة ما بين خليج العقبة والطائف فإن الطابع المميز للسكان بها يكاد يكون الاستقرار بوجه عام. وذلك في الواحات التي تتوافر على المياه وبعض الأراضي الصالحة للزراعة وتربية الماشية. والمراكز التي تحط بها الرواحل على طول الطريق جميعها قرى تتوافر على الكثير من الشروط التي يتطلبها نزول الحجاج من طعام وشراب وإقامة وعلف للدواب وغير ذلك. وحسب هذه المخطوطات يوجد ما بين خليج العقبة ومكة (وهي مسافة تقدر بنحو 1150 كم) أزيد من 25 قرية تختلف عن بعضها من حيث الأهمية والسعة وتجمع السكان. ففي الينبوع مثلاً (قرى كثيرة.. وهذا العمران متصل ثلاثة أيام.. وغالب أهل القرى يأتون إلى هذه القرية التي ينزل بها الحاج للتسوق وتعمر سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج). (العياشي، ص: 878). وفي (خليص) حيث (عين ماء تجري، أبنية وقهاوي وسوق). (العياشي، ص: 187).
ويتجلى طابع الاستقرار البشري والعمراني في المدن الأربع الرئيسة: (مكة) و(المدينة) و(جدة) و(الطائف). ويبقي لكل منها طابعها المميز بحكم موقعها وأهميتها وظروفها العامة: (فأهل المدينة أهل رفاهية وتوسع في المعيشة في زماننا هذا وتغال في الملابس الفاخرة وتزينوا بزي الأعاجم في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم لكثرة سكنى الأعاجم بها فإن بها طائفة كبيرة من عسكر الترك. خلاف أهل مكة فإنهم لم يزالوا على أعرابيتهم واستعمال البداوة وعدم المبالاة والاعتناء في الملابس والمآكل، قد غلبت عليهم البداوة وكثرة مخالطتهم لأهل البادية وسكناهم بها حتى أمراؤها من الأشراف فإن غالب سكناهم بالبادية وإن كانت لهم منازل بمكة، ولباسهم على زي لباس العرب). (العياشي، ص: 303). أما جدة (فمن أعظم البقاع وهي مدينة كبيرة ممتدة على ساحل البحر نحو ميلين. فيها قهاوي ومجالس حسنة يبالغ أصحابها في كنسها وتنظيفها ورشها بالماء وفيها جلوس غالب أهل البلد، وقد اتخذوا فيها أسرة كبيرة منسوجة بصفة محكمة). (العياشي، ص: 104، ج 2). وفي (الطائف) (قصور تحيط بها جنان من نخيل قليل وأعناب كثيرة وفواكه مما يشتهون). (العياشي، ص. 116، ج 2).
لقد كان من نتيجة تعامل أعراب هذه المناطق مع الوفود المختلفة للحجاج أن تأثروا وأثروا وظهرت لديهم عادات وتقاليد لم يغفل الرحالة عن تدوين بعضها (مازالت معهم في كلامهم بعض فصاحة ونطق بلغة قديمة منهم عرب برقة لقلة مرور الناس بهم وعدم مخالطتهم لغيرهم وقلة جولاتهم وعدم دخولهم الأمصار عكس الحجاز). (الناصري، ص: 288). وإذا كان الحجاج يفدون على الحرمين من جميع بقاع العالم الإسلامي فأهم الوفود الإسلامية المذكورة، كانت تتكون من (الركب الفاسي ثم الجزيري ثم المصري الشامي ثم اليمني ثم الإصطنبولي ثم العراقي ثم الكوفي ثم البصري ثم الهندي ثم العجمي ثم الكنكي السرتي ثم القرماني ثم البنكلي). كما ذكرت هذه المخطوطات المغربية أسماء بعض القبائل، فهناك: عرب بن عطية عند خليج العقبة وأعراب مدين عند بلدة مدين ويدعون العمريات. وعند المويلح أعراب بني عقبة ومغارة، وعند أكره أعراب هيثم، وعند الجوراء أعراب جهينة، وقرب بدر عرب صبح، وقبائل حرب بلادهم في الدهناء إلى الطائف إلى المدينة المنورة، وأعراب عنزة عند منطقة هدية، وقرب الينبوع أعراب الأحويطات وبنو سعد.
الجوانب العلمية والفكرية
أبرزت المخطوطات: دور (مكة) و(المدينة) كمركزين ثقافيين رئيسين في بلاد الحجاز لمكانتهما الدينية. كما أبانت عن حلقات العلم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف، ولكل منها كراسي خاصة وأماكن معينة وأوقات محدودة. وكان هؤلاء العلماء ينتمون إلى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي شرقاً وغرباً. وتتضمن المخطوطات قوائم طويلة لهؤلاء العلماء خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة. فلكل عالم اختصاص ومؤلفات عديدة في ميادين اختصاصه وتتوافر مكتباتهم الخاصة على مؤلفات لا حصر لها، وكثيراً ما كانوا يطلعون عليها طلبتهم ويسمحون لهم بالنقل عنها، أي أن حلقات العلم لا تقتصر على المسجد وحده وإنما تنعقد في منازل العلماء أيضاً (فكانت بيني وبينه محبة وقال لي كل ما تحتاج من الكتب للنظر فعندي). (الصغير، ص: 176). و(ذاكرنا في مسائل من العلم واطلعنا على جملة مؤلفاته ومصنفاته وهي كثيرة). (الإسحاقي، ص: 287). ومن عادات علماء الحرمين انقطاعهم عن التدريس يومي الثلاثاء والجمعة (ومن عادة المدرسين بالمدينة تعطيل القراءة في المكاتب والتدريس يوم الثلاثاء والجمعة). (العياشي، ص. 289). كما نقل الحجاج الكثير عن علمائهم في الحرمين الشريفين ودونوا ذلك في مخطوطاتهم. وقام البعض منهم بشراء العديد من المؤلفات في الموضوعات. ففي الحرمين الشريفين مكتبات عمومية تتوافر على العدد العظيم من المؤلفات المهمة في مختلف العلوم والفنون، وقد رجع إليها الرحالة ونقلوا عنها: (... خزائن الكتب العلمية الموقوفة بالحرم الشريف يستعير منها الناس للقراءة). (العياشي، ص: 284) (فصل في ذكر ما شاهدته بمكة من الكتب مما لم أكن رأيته إلا نادراً في خصوص خزانتها). (الناصري، ص: 281). وكان يقوم بعض العلماء الحجاج بالتدريس في الحرمين الشريفين: (لما كان أول شهر صفر ألجاني أصحابنا المالكية بالمدينة المنورة أن أقرأ لهم مختصر الشيخ خليل في فقه مالك.. فابتدأت قراءته في مؤخر المسجد بالجانب الغربي منه وكانت قراءتنا من بعد صلاة العصر إلى قرب المغرب). (العياشي، ص: 286).
ولقد أجاز هؤلاء العلماء طلبتهم المغاربة في شتى أنواع المعرفة، وكل إجازة تتضمن التعريف بالعالم وموطنه وشيوخه الذين درس عليهم، وموضع الإجازة. كما تحمل اسم طالب العلم المجاز وتوقيع العالم وخاتمه وتاريخ الإجازة. (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المنفرد بصفتي الجمال والجلال وشرع الحرام والحلال. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي من الضلال وعلى آله وأصحابه الذي خصهم الله بأعظم الأعمال ومن تبعهم من ورثة الأنبياء على أحسن حال مستديمين إلى يوم ظهور محامد الصفات ومحاسن الجلال. أما بعد فإن إجازة من سنن العلماء ومن طريقة الناسكين والعاملين ولهذا طلبني ذلك وإن أكن أهلاً لذلك من هو بالعلم موصوف والكمال معروف الشيخ عبدالله أبو مدين بن أحمد الصغير الدرعي فأجبته كذلك فأقول: قد أخذت فقه الحنابلة عن مولانا مفتي الحنابلة في المدينة المنورة الشيخ إبراهيم بن محمد سنده المعروف وعن السيد مصطفى القادوي البغدادي سنده المعروف أيضاً وأجرته بذلك حسبما أجازاني وأسأله أن لا ينساني في دعواته. وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. حرر يوم الخميس الثالث من شهر ذي الحجة عام ثلاثة وخمسين ومئة وألف. كتبه الفقير إلى الله تعالى محمد حديدي الحنبلي بن الشيخ محمد سنبل الفقيه بالمروة). (الصغير، ص: 193-194).
وإلى جانب التدريس يتولى العلماء أيضاً مناصب القضاء والفتوى والإمامة والخطابة والشهادة، وإن رغبوا عنها لما أصبح عليه الأمر من التزام وبيع وشراء لهذه المناصب (وأما الخطبة فهي كالإمامة موزعة بين فقهاء المدينة لكل واحد مقدار معلوم من الأيام على قدر حصته التي يأخذها من جامكية الخطباء) (العياشي، ص. 288). ولقد وقف مدونو المخطوطات طويلاً عند تسجيل الأحداث التي عرفتها الأماكن المختلفة التي مروا بها ما بين العقبة والطائف، دون أن يغفلوا عن ذكر الأوضاع القائمة، وقد رجعوا في ذلك إلى مصادر ومراجع عديدة في المشرق والمغرب ونقلوا عنها الكثير من المعلومات، مما جعل مذكراتهم أشبه بدائرة المعارف بالنسبة لكل منطقة أو مدينة، أو قرية. (انظر بحث الدكتور عبدالكريم كريم: بلاد الحجاز في المخطوطات المغربية المدونة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة، كلية الآداب - الربـــاط).
مكابدة الرحلة ومتعتها
وتبين المخطوطات جوانب ما كان يلاقيه الحجاج من مشقة ومحن ومكابدة ناشئة عن قساوة الطبيعة ووعورة التضاريس وأخطار السيول وشدة البرد وعمليات قطع طريق إلخ: (وفي وادي النار هبت علينا ريح غريبة كانت أول النهار باردة ووسطه وآخره سموماً لقي منها شدة ولم يروا أشد منه قبله). (العياشي، ص. 177)، (وقع به سيل عرم بعث الحجاج فذهبت بسببه رقاب ودواب وأموال عريضة ولم ينج إلا من كان على التلول والكرى)، (وما رأينا قط مثل هذه الرحلة في درب الحجاز طولاً وبرداً حتى مات بها خلق كثير من الجوع والبرد)، (وربما نزل البرد بهذه البلاد يحاكي في الكبر بيض الدجاج فيهلك الناس والدواب) ((الناصري، ص: 209 ـ 311). وفي بندر الوجه (هب على الناس ريح السموم وتسقيهم من نضيج اليحوم واشتد الحر وتوالى الكرب على الناس واشتد العطش على الرجال فبركت الإبل وفرت لضلال الأشجار.. مات من المغاربة زهاء الستين.. نساء وصبياناً ورجالاً وولداناً هو ما رأينا عياناً)، ووادي النبط (واد كبير بين جبلين لا سعة فيه في النبط إلى الخضيرة فإذا طلع النهار واشتد الحر حجبت الجبال عنه الهواء فينعكس غربياً أو شرقياً صاعداً مع الوادي أو منهبطاً فيصير سموماً محروقاً ولا ماء هناك من النبط إلى الينبوع فربما أتلف الناس فيه العطش فتموت المئات بل الآلف في أسرع مدة). (الدرعي، ص: 91 ـ 97).
والخلاصة: العرب والمسلمون من أكبر الرحالة بين الشعوب. ولقد تميزت رحلاتهم بقطعها لمسافات طويلة، وبتراوحها بين البرية والبحرية والقارية. ورغم طول هذه المسافات، وتنوع الحوائل المكانية (لا الثقافية أو السياسية) ما بين أرض القبلة ومنبع النور والأراضي المغاربية. إلا أن جذوة الشوق لري الظمأ الروحي وإطفاء لوعة الشوق والحنين إلى الأراضي الحجازية لم تنطف يوماً ما، وإلى يومنا هذا. وفي إطار (أدب الرحلات)، أو (الأدب الجغرافي) كما عند المستشرق الروسي (أغناطيوس كراتشكوفسكي)، أو (الأدب السياحي) كما سمّاه الناقد الجزائري (عبدالله الركيبي)، تواصلت القوافل، وخطت المخطوطات، وصنفت مصنفات (المسالك والممالك) لتبين لنا ما كان، لنقارنه بما هو كائن اليوم. ويبقى لله الحمد والمنة.

ذو صلة