مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

البُردة وأخواتها.. معارضات البردة بين الواقع والتاريخ

لقد زخر الشعر العربي وشرف بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر تلك المدائح لامية كعب بن زهير المشهورة، وقد قالها مادحاً ومعتذراً عما بدر منه، وقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بها، وخلع عليه (بردته)، ومن ثَمَّ أُطلق على القصيدة (البردة)، والقصيدة تقع في 58 بيتاً، وقد بدأها بما اشتهر عند الشعراء الجاهليين من المقدمات الغزلية:
بانَتْ سُعادُ فقلْبِي اليومَ مَتْبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَهَا لم يُفْدَ مَكْبُولُ
وفيها يقول مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم:
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعدَني
والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَبْذُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به
وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُول
وقد كتبت عدة شروح على هذه القصيدة، ونشرها لتّ في ليدن سنة 1740، ثم نشرها فريتاغ مع ترجمة لاتينية، ونشرها باسيه مع ترجمة فرنسية، ولها ترجمة إنجليزية، وأخرى إيطالية بقلم كابرييلى، وترجمة ألمانية بقلم ريشر.
وقد ألهمت قصيدة كعب (بانت سعاد) كثيراً من الشعراء، أشهرهم البوصيري الذي نظم قصيدته الميمية الشهيرة (البردة) أو الكواكب الدرية في مدح خير البرية، وقد رزقت تلك القصيدة القبول والانتشار، وهذا ما حدا بكثير من الشعراء على محاذاتها ومعارضتها بشتى أنواع المحاذاة من تشطير وتربيع وتخميس ومعارضة.
ومن أشهر المعارضات ست معارضات لستة من شعراء العصر الحديث، كلٌّ منهم انطلق من مخزونه الثقافي، مبرزاً رؤيته، مدبجاً أسلوبه الذي ميزه عن الآخرين، وإن اصطبغوا جميعاً بالقالب الفني العام للبردة، وهؤلاء الشعراء هم: محمود سامي البارودي، أحمد شوقي، محمد عبدالمطلب، علي أحمد باكثير، ميشيل الله ويردي، الدكتور حسن إبراهيم.
أولاً: (البردة) للبوصيري
وهو شرف الدين محمد بن سعيد، ينسب إلى (أبو صير) من أعمال بني سويف بمصر، ولد سنة 608هـ وتوفي 696هـ بالإسكندرية، وللبوصيري قصائد كثيرة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، منها قصيدته التي عارض فيها لامية كعب:
إلى متى أنت باللذات مشغول
وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
ولكن تظل ميميته المعروفة بالبردة هي أشهر مدائحه النبوية، ومطلعها:
أَمِنْ تَذَكُّر جِيرَانٍ بذي سَلَمِ
مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
وقد نظمها في 160 بيتاً مقسمة على عدة فصول مثل: الغزل، التحذير من هوى النفس، مدح النبي صلى الله عليه وسلم: مدح مولده، معجزاته، شرف القرآن ومدحه، الإسراء والمعراج، جهاد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما قاله في مدحه:
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هول من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله، فالمستمسكون به
مستمسكون بحبل غير منفصم
ونرى أن البوصيري لم يلتزم التسلسل التاريخي، وإنما ذكر الحدث التاريخي مصبوغاً بعاطفته وروحه، سالماً من جفاف المادة العلمية.
ثانياً: محمود سامي البارودي
في قصيدته (كشف الغمة في مدح سيد الأمة)، تأثر البارودي (شاعر ووزير مصري توفي عام 1904م)؛ بالبردة تأثراً عظيماً، جعله ينظم قصيدة كبيرة تقع في (447) بيتاً، ضمَّنها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بالعاطفة والعقل والمنقول من أحداث التاريخ، معتمداً على سيرة ابن هشام، وبدأها على عادة كثيرة من الشعراء الأقدمين ناسباً ناشداً البرق أن يقصد منازل أحبابه:
يا رائد البرق يمم دارة العلم
واحدُ الغمام إلى حي بذي سلم
وبعد (22) بيتاً يخلص إلى المديح:
محمد خاتم الرسل الذي خضعت
له البرية من عرب ومن عجمِ
ثم يذكر سيرة النبي عليه الصلاة والسلام بداية من مولده، ويفرد فصلاً للحديث عن معجزاته، ويتحدث عن الهجرة:
وسار بعد ثلاث من مباءته
يؤم طيبة مأوى كل معتصم
ويتحدث عن غزواته بداية من غزوة بدر:
ويمم المصطفى بدراً فلاح له
بدر من النصر جلّى ظلمة الوخم
ثم يتحدث عن سبب نظمه القصيدة:
نظمتها راجياً نيل الشفاعة من
خير البرايا ومولى العرب والعجم
ثم يعتذر عن التقصير في المدح لسمو الممدوح، ويختمها بقوله:
وامنن على عبدك العاني بمغفرة
تمحو خطاياه في بدء ومختتم
ثالثاً: أحمد شوقي (نهج البردة)
شوقي في قصيدته نظر إلى ابن الفارض بعين، وإلى البوصيري بعين أخرى، لذلك نلمح فيها نزعة صوفية، والقصيدة تضم (190 بيتاً)، يبدؤها بالغزل:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وبعد (42) بيتاً يمدح النبي عليه الصلاة والسلام:
محمد صفوة الباري ورحمته
وبغية الله من خلق ومن نسم
ثم يستطرد في ذكر أحداث من السيرة، كالحديث عن بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مثل القرآن والإسراء والمعراج:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه
والرسل في المسجد الأقصى على قدم
ويعقد فصلاً مطولاً للحديث عن النبي باعتباره داعياً للسلام ورائداً للحضارة:
شريعة لك فجرت العقول بها
عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
وفي ختام نهج البردة يبتهل إلى الله أن يصلي ويسلم على خير المرسلين:
يارب صل وسلم ما أردت على
نزيل عرشك خير الرسل كلهم
ثم يختمها:
يارب أحسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
ومما يميز قصيدة شوقي هو مناقشته لبعض أفكار المستشرقين مثل رده على دعوة انتشار الإسلام بالسيف.
رابعاً: محمد عبدالمطلب وقصيدته (ظل البردة)
محمد عبدالمطلب ولد عام 1871م، وتوفي عام1931م. يبدأ الشاعر قصيدته أيضا كعادة القدماء بالتشبيب:
أغرى بك الشوق بعد الشيب والهرم
سارٍ طوى البيد من نجد إلى الهرم
والملاحظ في قصيدته التي تشتمل على (123 بيتاً) تركيزه على واقع المسلمين، لذلك لم تطل مقدمته الغزلية، ثم يتحدث عن حال العالم قبل البعثة:
ولو ترى قبله الدنيا وما لقيت
من البلاء وما ذاقت من النقم
ثم ينتقل إلى الحديث عن بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم:
لاحت مخايله تنبيك أن له
قدراً تفرد في السادات بالعظم
المجد محتده، واليمن مولده
والحمد مورده، معنى اسمه العلم
وفي ختام القصيدة يوجه أنظار المسلمين إلى ما كان عليه أسلافهم، ويختم قصيدته بقوله:
ويا نبياً سقى الدنيا بملته
روق الحضارة من سلسالها الشيم
خامساً: علي أحمد باكثير في قصيدته (نظام البردة)
ولد سنة 1910 وتوفي عام 1969، نظم تلك القصيدة التي تضم (255 بيتاً) وهو في العشرينات. لم يبدأ مثل سابقيه بالمقدمة الطللية، فقد كان منشغلاً بواقع الأمة الإسلامية:
يا نجمة الأمل المغشي بالألم
كوني دليلي في محلولك الظلم
ثم يذكر حال الأمة العربية:
أرنو إلى يعرب والدهر يعرضها
رواية البؤس بعد العز والنعم
تقاسمتها شعوب الغرب تدفعها
إلى المهالك سوق الشاء والنعم
ويدعو إلى زيارة المسجد النبوي، ثم يلج في المديح:
كان الرسول هنا يملي هدايته
على الأنام بلا عي ولا لسم
وينطلق نحو ذكر شمائله، ويتحدث عن دور المرأة في الإسلام، مستشهداً بخديجة رضي الله عنها:
رأت خديجة من أخلاقه عجباً
وهي الغنية ذات الرأي والفهم
ثم يتحدث عن معجزته الخالدة القرآن الكريم:
المعجز الخالد الباقي بجدته
إذ معجزات سوى المختار لم تدم
ويذكر شعائر الإسلام مثل الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، ويفصل في ذكر عظمة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يتطرق إلى وصف واقع المسلمين اليوم:
لقد غدت أمة الإسلام واهلة
منها القلوب فأضحت قصعة الأمم
ثم يختمها:
واختم بمسك تحيات يفوح على
محمد خير مبدوء ومختتم
ما أومض البرق في الظلماء من إضم
وما عطا الريم بين البان والعلم
سادساً: ميشيل الله ويردي في قصيدته (وحي البردة)
القصيدة (125 بيتاً) نشرت في مجلة الرسالة القاهرية العدد 1005 الصادر في 6/ 10/ 1952، وفي العدد 1008 نشر الأستاذ عزيز خانكي تعليقاً يفيد أن عائلة (ويردي) عائلة أرمنية مسيحية كاثوليكية.
ويبدو تأثر الشاعر بالبوصيري والبارودي وشوقي، مع أنه رأى وجوب الانصراف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام عن التشبيب بالنساء، فالموقف أجل:
أنوار هادي الورى في دارة العلم
رفت على ذكر جيران بذي سلم
ويتحدث عن عظمة النبي عليه الصلاة والسلام:
يا أيها المصطفى الميمون طالعه
قد أطلع الله منك النور للظلم
ويستفيض في الحديث عن نهوضه بأمته:
يا عبقري الورى الأمي هل سمعت
من قبلك العرب وحياً جد منسجم
آياتك الغر إعجاز تنزه عن
ند وليس دعي الحب كالسدم
ويتحدث عن واقع المسلمين القاتم، وحاجتهم إلى الهدي النبوي، ثم يدعو الجميع إلى التمسك به:
يا أيها العرب المأثور مجدهم
ما فاز بالمجد شعب شبه مختصم
ثم يختتم قصيدته:
صلى الإله على ذكراك ممتدحاً
حتى تؤم صلاة البعث بالأمم
سابعاً: الدكتور حسن إبراهيم في قصيدته (محمد رسول الله)
الطبيب حسن إبراهيم من مواليد 1914، وقد ألقى هذه القصيدة في مؤتمر مجمع اللغة العربية في الدورة 45 سنة 1399هـ/ 1979م، والقصيدة في 124 بيتاً.
يحاول الشاعر في مقدمة قصيدته تجاوز المقدمة الطللية والتشبيب بالنساء:
ما ذبت شوقاً لجيران بذي سلم
ولا أرقت لذكر البان والعلم
وما أبحت لريم القاع سفك دمي
في الأشهر الحل أو في الأشهر الحرم
وبعد المقدمة الموجزة يخلص الشاعر إلى المدح بادئاً بالحديث عن نشأته عليه الصلاة والسلام:
محمد عرك الدنيا بما حفلت
من الشقاوة والنعمى ومن غمم
جاء الحياة يتيماً قبل مولده
وفي الطفولة عانى شقوة اللطم
ثم يتحدث عن بعض مظاهر الإعجاز القرآني:
جاء الكتاب عجيباً في بلاغته
وما حواه من التقنين والنظم
ويتحدث عن الإسراء والمعراج، ويذكر نهوضه بدعوته، والهجرة وما حدث من التآمرات والتحالفات عليه، متحدثاً عن بعض الغزوات مثل غزوة أحد، وفتح مكة وأسبابه، ويتحدث عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
وما محمد باقٍ إنه بشر
من قبله الرسل قد عادوا لربهم
وفي ختام قصيدته يبتهل ويرجو الله:
سألتك العفو ربي إنني بشر
جم الذنوب وأنت الواسع الكرم
وفي الختام، فهذه سبع قصائد، إذا أضفنا إليه قصيدة كعب صارت ثماني قصائد متباينة الطول، أتى ست منها معارضة لبردة البوصيري ملتزمة قالبه في قصيدته مع وحدة الموضوع ووحدة القالب الفني، ومع ذلك كان لكل شاعر وجهة نظر ورؤية أدبية ودينية وتاريخية مختلفة عن الآخرين.
تنبيه:
الشاعر خالد الشيباني نظم قصيدة (أنوار البردة) متبعاً نفس الوزن من بحر البسيط والقافية، وتجاوزت أبياتها الخمسمئة بيت، مطلعها:
يا آيةَ الطهرِ والأخلاقِ والكرمِ
وقِبْلةَ النورِ والتشريفِ للأممِ
ويقول في مدحه:
مُحمَّدٌ جاءَ فيهِ الحُسنُ مُكتملاً
وقطرةٌ حُسْنُ أهلِ الشرقِ والعَجَمِ

ذو صلة