مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عبدالله محمد الطائي.. خمسون عاماً على رحيله

يصادف هذا العام مرور نصف قرن على رحيل الأديب والمثقف العماني عبدالله محمد الطائي، الذي رحل عن عالمنا في سنة 1973، وهو في قمة عطائه، وله من العمر تسعة وأربعون عاماً. لقد ولد حوالي 1924، وكان الأدب والثقافة والمجتمع العماني، وكذلك الخليجي؛ ينتظرون منه الكثير من العطاء والإبداع، إذْ لم ينجز كل ما لديه، فقد اخترمته المنون، وكان في ذلك خسارة للشخص وخسارة للثقافة في الخليج وشرقي الجزيرة العربية.
ولكن مع عمره القصير فقد كان الطائي أحد الأوائل المبرزين في أبناء جيله، إذ تبوأ مكانة تليق به باعتباره أحد رواد النهضة الثقافية والأدبية، ليس في عمان فقط؛ بل في الخليج عموماً، وخصوصاً في البحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة.
لقد بدت عليه علامات البروز والتميز الأدبي والثقافي منذ يفاعته والتحاقه بدفعة طلابية للدراسة في بغداد، بعد أن نال قسطاً من الدراسة في عمان على أيدي شيوخ أجلاء، أمثال: أحمد بن سعيد الكندي وسالم بن حمود السيابي، حيث تتلمذ عليهم في اللغة العربية.
ولاستكمال دراسته سافر إلى بغداد سنة 1935، واستمر هناك إلى سنة 1942، حيث كانت بغداد والعراق حافلة بكل متغيرات الثقافة والسياسة والثورات الشعرية، وقيام سجالات ثقافية وفكرية، وحضور مثقفين عرب في أجواء العراق. لقد كان شاهداً ومشاركاً بطريقة أو أخرى في هذه الأجواء.
ويمكن القول إن هذه المرحلة تعتبر مهمة بالنسبة لمستقبل الطائي؛ إذْ نقلته من أجواء عمان المحلية المغلقة إلى حد ما إلى أجواء أكثر انفتاحاً وسعة في السجال الفكري والثقافي والسياسي والأدبي بطبيعة الحال.
إن هذه المرحلة هي النقطة الأساس في تكوين الطائي اللاحق، حيث تأثر بأجواء العراق وما يدور فيه من أحداث سياسية وثقافية، وقد شكلت كثيراً من توجهاته القومية والعروبية والوطنية اللاحقة ضمن مجرى حياته. ومن أهم الأماكن التي كان الطائي يغشاها نادي (المثنى) الذي كان يمثل أحد أهم الركائز الثقافية النهضوية في العراق في الأربعينات من القرن الماضي.
بعد عودته إلى عمان تم تعيينه في المدرسة السعيدية، ومكث فيها حوالي ست سنوات، لكن هذه المدة لم تشكل منعطفاً في حياة الطائي المنطلق والمتحرر من قيود التقاليد وثقلها بالنسبة لمثقف ومربٍ مثله يحاول الانطلاق إلى عوالم لانهائية، بل شعر بالضيق وهجر المدرسة متبرماً، وهاجر عن عمان ميمماً وجهه شطر باكستان سنة 1947، بعد استقلالها مباشرة عن الهند، ومكث فيها ربما أقل من ثلاث سنوات كانت بالنسبة له بمثابة محطة للراحة والتزود بمزيد من الثقافة والاطلاع على مزيد من تراث الشعوب الأخرى. وهكذا قيض له أن يتعلم اللغة الإنجليزية، وكذلك اللغة الأردية، فاستطاع من خلالهما أن يطلع على أقطاب الثقافة الهندية الباكستانية، وبخاصة في مجال الشعر، كما لدى محمد إقبال.
كما أشرت، لم يمكث طويلاً في باكستان، فعاد إلى عمان لينتقل منها مباشرة إلى البحرين التي عمل بها مدرساً، واستمر فيها حوالي تسع سنوات، وهي من أهم مراحل أو محطات حياة الطائي، وباعترافه هو.
خلال وجوده في البحرين اعتبرها وطنه الثاني، ووجد في هذا البلد ما يسر الروح والعقل والقلب، فما كان منه إلا أن استقر هو وعائلته، حيث وجد في البحرين أجمل وأحلى سنوات العمر والشباب، كما وجد فيها كل ما يلبي اهتماماته كمثقف وأديب وشاعر وكاتب وروائي وحتى كسياسي، وبخاصة أن البحرين كانت خلال هذه الفترة تعج بمختلف الأفكار والتوجهات الفكرية والثقافية والأدبية.
إن الفترة التي قضاها الطائي في البحرين يمكن اعتبارها الفترة الذهبية، حيث كان يمتاز بالحضور والتألق في مختلف الأنشطة والفعاليات الثقافية في البحرين، خصوصاً تلك التي تقوم بها الأندية الثقافية مثل نادي العروبة ونادي البحرين وغيرها من المؤسسات الثقافية. إضافة إلى ذلك كانت له لمسات متنوعة في مجال الكتابة، حيث شارك في كثير من الكتابات والحوارات التي كانت تدور في خمسينات القرن الماضي من خلال الصحافة، فهو كاتب ناثر بامتياز وشاعر لا يشق له غبار، وناقد ذو حس يمتاز بالرهافة والذوق النقدي والأدبي الرفيع. ولأنه متميز فقد شارك في برامج إذاعة البحرين التي تأسست في منتصف الخمسينات. هذا فضلاً عن مشاركته في تحرير مجلة (هنا البحرين) وهي مجلة الإذاعة في ذلك الوقت. كما كان له زواية ثابتة في مجلة صوت البحرين بعنوان (شعراء من جزيرة العرب)، وهي مقالات يتناول فيها قضية الشعر الحديث والمعاصر في الخليج والجزيرة العربية من منظور حديث.
ولكنه أيضاً كان حاضراً في أجواء البحرين ككل، عندما كانت الحياة السياسة طوال عقد الخمسينات من القرن الماضي تمور بالأحداث والصراعات وكانت القوى الوطنية في تحدٍّ للاستعمار البريطاني والمطالبة بالاستقلال الناجز.
لقد كان الطائي حاضراً في هذا المعمعان من الأحداث، كما كان فاعلاً فيه، الأمر الذي لم يحتمله المعنيون، فما كان إلا أن طلب منه مغادرة البحرين، فغادرها وفي قلبه أسى وأسف ورغبة لا تقاوم في البقاء في هذا البلد الذي وجد فيه ما لم يجده في غيره على كثرة ترحاله. فغادرها إلى الكويت سنة 1957، ليجد مستقراً جديداً في هذا البلد الجميل، ويحتضنه فيها المثقفون والأدباء والمفكرون، وبخاصة أولئك الذين تعرف عليهم أو زاملهم أثناء الدراسة في بغداد. ويعاملونه كأنه واحد منهم، أو هو كويتي كما هو عماني. وأثناء وجوده في الكويت شارك في مختلف الأنشطة الثقافية، وفي المؤسسات المعنية بالثقافة، وفي البرامج الإذاعية مثل برنامجه الشهير في إذاعة الكويت الذي كان يبث تحت عنوان (دراسات من الخليج العربي)، وغيرها خلال عقد الستينات من القرن الماضي. كما كان يعقد المحاضرات والمداخلات أو تعريف المنتدين.
ترك الطائي في كل بلد خليجي حل فيه مجموعة من المنجزات الثقافية والإدارية والإعلامية والذكريات الثقافية والأدبية والإنسانية. كما حدث عندما ابتعثته حكومة الكويت مندوباً لها للإشراف على تأسيس نظام تربوي في إمارة دبي في منتصف الستينات فما فوق، ومن خلال ذلك استطاع فيما بعد تأسيس إذاعة دبي وتلفزيون دبي، كما أصبح فيما بعد مستشاراً للشيخ زايد، واستطاع أن يؤسس جريدة الاتحاد.
في بداية السبعينات عاد إلى وطنه بعد أن قضى حوالي ربع قرن من التجوال في دول الخليج وغير دول الخليج، ومن الاستقرار واللااستقرار؛ ليصبح وزيراً للإعلام ووزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل في عمان مع بداية عهد السلطان قابوس.
ومن خلال هذا المنصب كان له دور التأسيس في نهضة عمان الإعلامية والصحفية والثقافية. إلا إنه بعد فترة قصيرة عاد إلى اهتماماته المحببة إلى نفسه المتمثلة في الأدب والنقد والشعر وكل ما له علاقة بالثقافة بالمعنى العام.
وعلى الرغم من اشتغاله بالأمور الثقافية والإبداعية منذ بداياته فإن معظم أعماله صدرت بعد رحيله باستثناء عملين صدرا أثناء حياته هما: (ملائكة الجبل الأخضر) سنة 1966، وهي رواية تجعل من حركة المد القومي العربي منذ بداياته، مروراً بتأميم قناة السويس ومحاولات الوحدة العربية والاحتجاج على الأحلاف؛ إطاراً لها، إلا إنها في الحقيقة تتناول تاريخ عمان السياسي وأحداثه منذ منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات، ومحاولات إخراج المستعمر البريطاني. كما صدر له ديوان شعر بعنوان (الفجر الزاحف) في السنة نفسها.
أما بقية أعماله فقد صدرت بعد وفاته، وفي مقدمتها كتاب (الأدب المعاصر في الخليج العربي)، وهو أول إصدار له بعد وفاته بسنة 1974، ويعد دراسة تاريخية للأدب المعاصر في دول الخليج العربية، قدمها محاضرات في معهد البحوث العربية والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابع لجامعة الدول العربية.
ثم تتالت مجموعة من الإصدارات، هي: (وداعاً أيها الليل الطويل) ديوان شعر، و(الشراع الكبير) رواية، (دراسات عن الخليج) سلسلة مقالات فكرية ثقافية، و(شعراء معاصرون) تراجم عن عدد من الشعراء، و(مواقف) مجموعة من المقالات، و(تاريخ عمان السياسي) دراسة تاريخية سياسية، ثم (المغلغل) وهي مجموعة قصصية، وأخيراً ديوان شعر بعنوان (حادي القافلة).
أخيراً، وبالرغم من عمره القصير، ومرور نصف قرن على رحيله؛ يظل الطائي حاضراً في الذاكرة الثقافية لمثقفي ومفكري وأدباء الخليج، كما يظل تراثه الثقافي الذي خلفه للأجيال اللاحقة منطلقاً لكثير من الرؤى والأفكار والمقاربات الأدبية والنقدية والثقافية بوجه عام، بالإضافة إلى ما أبدعه الطائي في مجال الشعر والرواية، حيث كان أحد الرواد الأوائل في الخليج في فنون الشعر والرواية وكتابة فن المقالة، باعتباره ناثراً متميزاً بين أقرانه؛ كل هذه الإنجازات تمثل مجالات للدراسة والبحث الأكاديمي لدى الأجيال الطالعة، ومصدراً لدراسة طبيعة الفكر والثقافة والأدب بكل تجلياتها خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين في منطقة الخليج العربي.

ذو صلة