مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عبدالوهاب الأسواني والصراع بين الجنوب والشمال

ولد عبدالوهاب محمد حسن عوض الله الشهير بعبدالوهاب الأسواني يوم 17 يناير عام 1934 في جزيرة المنصورية وسط نهر النيل، وتتبع مركز دراو محافظة أسوان، وينتمي إلى قبيلة الخزرج الأنصارية التي تعيش في جزيرة المنصورية، وهي من القبائل العربية المنتشرة في محافظات صعيد مصر، سافر عبدالوهاب صغيراً للإسكندرية مع والده، والتحق بمدرسة سيد درويش الابتدائية بحي الرمل في الإسكندرية، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1947، كان والده يعمل متعهداً لتوزيع ألواح الثلج بحي الرمل بالإسكندرية على محلات بائعي المياه الغازية والمطاعم وتجار الأسماك، ثمانية أشهر كل عام، ويسافر والده وأسرته إلى جزيرة المنصورية كل شتاء لمدة أربعة أشهر، ويبقى عبدالوهاب بالإسكندرية ليدير العمل أثناء غياب والده. نجاح عبدالوهاب بإدارة العمل في غياب والده، شجع والده على منعه من استكمال دراسته وهو بالسنة الثالثة الثانوية قائلاً له: (لست في حاجة لشهادة تعمل بها ودخلك من عملك أكبر بكثير من دخل موظف جامعي).
 كانت الثانوية العامة آنذاك خمس سنوات وكان عبدالوهاب يهوى القراءة وكتابة القصص ومشاهدة الأفلام السينمائية، وواظب على شراء الكتب القديمة وقراءتها، ليثقف نفسه سائراً على طريق عباس العقاد الذي لم يكمل دراسته بعد الشهادة الابتدائية أيضاً، وبدأ يقرأ قصصه بندوة يوم الثلاثاء في قصر ثقافة الحرية، وعندما أخبرهم مدير القصر أنه لا يفهم حديثهم عن الميتافيزيقا والشكل والمضمون، انتقلت ندوتهم للمقهى التجاري، ثم اشترك في مسابقة نادي القصة برواية وقصتين قصيرتين، وأعلنت نتيجة مسابقة نادي القصة للرواية وفازت رواية: سلمى الأسوانية بالجائزة الأولى عام 1966، كما فازت قصتان قصيرتان بمسابقة نادي القصة للقصة القصيرة بالمراكز الأولى عام 1966، وتسلم عبدالوهاب الأسواني ثلاث جوائز من يوسف السباعي في يوم واحد، وكانت لجنة تحكيم مسابقة الرواية تضم يحيى حقي والدكتورة سهير القلماوي رئيس الهيئة المصرية للتأليف والنشر آنذاك، فنالت رواية سلمى الأسوانية إعجابهما، وبعد ثلاث سنوات عرفت سهير القلماوي أن الرواية لم تطبع، فأمرت بطباعتها، لتصدر عن الهيئة المصرية للتأليف والنشر عام 1970، وساعده يحيى حقي بالحصول على منحة التفرغ عام 1967- 1968، ليكتب روايته الثانية: (وهبّت العاصفة)، التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة نادي القصة عام 1969، وساعده رجاء النقاش بالعمل محرراً أدبياً في مجلة الإذاعة والتليفزيون، ثم سافر للعمل بجريدة الراية الدوحة قطر، وأشرف على ملحقها الثقافي الذي يصدر كل يوم أربعاء، وانتقل للعمل بالمملكة العربية السعودية بمجلة الشرق بالدمام، وعمل في مجلة الفيصل بالرياض، وبعد فترة عاد للعمل بمجلة الشرق مرة ثانية، واختتم رحلة العمل بالمجلات الثقافية العربية بالعمل في المجلة العربية بالرياض عدة سنوات، حتى قرر العودة الأخيرة إلى مصر، وحصلت روايته: (النمل الأبيض) على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1998، ونال جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 2011، وكان عضو اتحاد كُتّاب مصر، وعضو مجلس إدارته، وعضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وكانت رواياته محل الدراسات النقدية بالجامعات، فقد نالت الباحثة نعمات محمد قابيل درجة الماجستير في الآداب عام 2013، بقسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم جامعة المنيا عن رسالتها: البناء الفنّي في روايات عبدالوهاب الأسواني، إشراف الدكتور سعيد الطواب أستاذ الأدب العربي بالكلية، وترجمت قصصه القصيرة للغتين الفرنسية والصينية، وترجمت روايته: أخبار الدراويش للغة الروسية، وآخر وظيفة شغلها: مستشار رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، وبعد رحلة طويلة مع الكتابة تُوفي عبدالوهاب الأسواني بالقاهرة يوم 3 يناير عام 2019، عن عمر 85 عاماً.
المنجز الأدبي
أصدر عبدالوهاب الأسواني ثماني روايات: سلمى الأسوانية عام 1970، وهبّت العاصفة عام 1972، اللسان المُرّ عام 1981، ابتسامة غير مفهومة عام 1981، أخبار الدراويش عام 1988، النمل الأبيض عام 1995، كرم العنب عام 2007، إمبراطورية حمدان عام 2018، وأصدر ثلاث مجموعات قصصية: مملكة المطارحات العائلية عام 1983، للقمر وجهان عام 1986، شال من القطيفة الصفراء عام 1999، وأصدر عدة تراجم للشخصيات الإسلامية: وقائع درامية من التاريخ العربي عام 1970، خالد بن الوليد جزءان عام 1978، أبو عبيدة بن الجراح عام 1979، الحسين بن علي بن أبي طالب، بلال مؤذن الرسول، عمرو بن العاص عام 1980.
البناء الفني في رواية سلمى الأسوانية
ينهض البناء الفني في رواية سلمى الأسوانية على تقنية الراوي العليم الشاهد على أحداث الرواية، حيث يتناوب ضمير الغائب وضمير المتكلم بسرد الأحداث باللغة الفصحى، وتكثر مفردات العامية/ لهجة أهل أسوان في لغة الحوار، مثل مفردة: النبوت، أداة العركة في الصعيد، ومفردة: الشّكْلَة، أي العركة، ومفردة: الفِرْدة، وهو يصف مشهد: الفِرْدة، وهو مبلغ من المال يساهم بجمعه أهل القبيلة عند شراء ذبيحة للأسرة التي مات أحد أفرادها، وكذلك مشهد: القَوّال، الشاعر الأمّي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، ومع ذلك يقول الشعر وفي لهجتهم اسمه: الدور ويردّ عليه القَوّال/ الشاعر الآخر بقصيدة من نفس البحر الشعري، وعلى نفس الوزن، في أغراض: الفخر والمدح والوصف والهجاء، وتصف الرواية مظاهر العرس في الجزيرة، إذ تبدأ بزيارة ضريح أحد أولياء الله الصالحين لأخذ البركة، وقبل الدخلة بيوم واحد يركب العريس حصاناً وحوله عشرة من أصحابه كل يركب حصانه، ويدورون على نجوع القرية، ليقال لهم أمام كل ساحة: تفضلوا عندنا غداً، ويستقبلهم أهل النجع بأكواب الليمون المُحلّى بالسكر، يشربونه وهم فوق ظهور الخيل، وفي موكب الزفة يتبارى العريس والعروس برشّ وجه كل منهما بما يملأ فم صاحبه بالماء، ويوم الصَباحيّة يُهرول العريس
مع أصحابه، ليغتسلوا بنهر النيل وإلا فسد الزواج، وكأنه يُصبّح على نهر النيل، ليأخذ منه بركة الفيضان والخصوبة.
والصراع في الرواية مُتعدّد الأوجه، فالصراع في الهجرة الخارجية صراع بين الشرق والغرب كما قرأنا في رواية يحيى حقّي قنديل أم هاشم، لكن صراع الهجرة الداخلية صراع بين الجنوب المنغلق/ أسوان، والشمال المنفتح/ الإسكندرية.
الصراع الأول يشتعل بين مصطفى ووالده، تبدأ الأحداث ببرقية عاجلة تصل مصطفى الذي نشأ وتعلّم في الإسكندرية من والده الذي سافر لزيارة أهله في جزيرة المنصورية بأسوان، ونص البرقية: احضر فوراً لأمر مهم، ولم تحدد البرقية هذا الأمر المهم الذي جعل مصطفى يترك عمله ويسافر ليلاً بالقطار، وفي القطار يدور حديث بين مصطفى وجاره بالمقعد المجاور، لنعرف ماذا يدور برأس مصطفى، يستقبله والده على محطة القطار بالركائب، لكنه لم يخبره سبب الاستدعاء، وفي الليل تخبره أمه أن سلمى زفت إلى شاب أبله، يغضب مصطفى، ويجتمع رجال القبيلة ليتشاوروا، ويحسم الأب قراره، ويدخل مصطفى في مواجهة حادة مع والده، وينتهي هذا الصراع عندما تدخل الشيخ محارب، ليجبر مصطفى بالزواج من سلمى بنت عمه، حتى تعود أمه من دار أبيها بعد أن هدد والده بطلاق أمه إن لم يتزوج سلمى، وبالفعل غادرت الأم منزل زوجها وأقامت عند أبيها، وهكذا أُجبر مصطفى على الزواج من سلمى، وصمّم والده أن يقيم حفلاً كبيراً، دُعِيَ إليه كل كبار قبيلته والقبائل المجاورة، ليعرف الجميع أن سلمى تزوجت ابن عمها صاحب الشأن العالي والمتعلم صاحب الشهادة، حتى يردّ لها كرامتها أمام قبيلة زوجها الأبله السابق، وليؤكد والده أمام كل القبائل أن شرف القبيلة محفوظ ومصان.
والصراع الثاني صراع نفسي، حيث نقرأ أحداث هذا الصراع، ومصطفى يعقد المقارنة بين القرية والمدينة، وبين سلمى التي لا تعرفه ولا يعرفها وتمثّل من وجهة نظره كل مظاهر الفقر والجهل والتخلف في قريته، وبين نادية التي عاش معها بالإسكندرية وعرفها واقترب منها وذاكر معها، وقرأ معها الكثير من الكتب، وأحبّها واتفقا معاً على الزواج، نسمعه ينحاز إلى نادية التي تمثل لديه العلم والمعرفة والمدينة المتحضرة، وإذا كانت نادية حاضرة في قلب المشهد/ متن الرواية، حيث مجتمع مدينة الإسكندرية المنفتح على ثقافات العالم المختلفة، لكن بالمقابل نجد سلمى تسكن هامش الرواية، وتختفي هناك خلف أبواب الغرف المغلقة حسب طبيعة مجتمع القرية الصعيدية المحافظ، يظل مصطفى يدور في صراعه النفسي بين مجتمع القرية ومجتمع المدينة، فقد هاجر من القرية طفلاً هرباً من ثالوث: الفقر والجهل والمرض، إلى المدينة حيث الحضارة والثقافة والعمل ومصادر الرزق الوفير، طول الوقت نجد مصطفى يعقد مقارنات بين عالم سلمى/ القرية، وعالم نادية/ المدينة، وهو إذ قرر رفض الزواج من سلمى، فهو قرار أخذه منذ سنوات بعيدة عندما قرر الهجرة من القرية إلى المدينة، ليتعلم ويعمل ويكسب ويربح، وبالتالي لا يريد العودة مرة أخرى للقرية، فزواجه من سلمى سيربطه مرة أخرى بقريته، وإذا كان الصراع ينتهي لصالح حكم القبيلة درءاً للفضيحة والعار وتنفيذاً لحكم كبير العائلة/ القبيلة، فقد تزوج مصطفى من سلمى بنت عمه قسراً، إلا أننا نجد أحد حكماء القبيلة عم عبدالله يجد مخرجاً لمصطفى وهو يستعد للسفر وحده للإسكندرية، مخرجاً يحفظ ماء الوجه للجميع، نقرأ حواراً بين مصطفى وعمّ عبدالله، يؤكد له أن بنت الجنوب أجمل ألف مرة من البحراوية التي يعشقها في الشمال.
رواية سلمى الأسوانية ترصد الصراع بين مجتمع القرية/ جنوب مصر، الذي تحكمه تقاليد المجتمع القبلي، وبين مجتمع مدينة الإسكندرية/ الشمال، المنفتح على ثقافات العالم المتحضر، وتصور الرواية إشكالية السلطة الأبوية التي لا تزال تحكم القبيلة، وصراع الأبناء مع سلطة الأب الجامد الحاد الصارم حد الاستبداد، فلا رأي فوق رأيه، ومطلوب الخضوع وتنفيذ حكم شيخ القبيلة مهما كان، وتكشف الرواية عاقبة التمرد والخروج على هذه السلطة، فعاقبة التمرد وعدم تنفيذ حكم شيخ القبيلة، يُعرّض المتمرد للطرد من القرية، ومقاطعة جميع أفراد العائلة/ القبيلة له مقاطعة نهائية طول العمر، لا يعود للقرية أبداً، ولا حتى ليدفن في تراب أرضها، وعليه أن يعيش غريباً منبوذاً وحيداً منفياً بلا أهل أو وطن.

ذو صلة