مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ليلة رأس السنة في الرواية العربية

هل هي ليلة رأس السنة الهجرية؟ هل هي ليلة رأس السنة الأمازيغية أم الفارسية أم السورية أم الكردية أم الطوائف المسيحية الشرقية؟ أم ماذا؟
أياً تكن، هي في الرواية العربية ليلة رأس السنة الميلادية، سواء أكانت الرواية وقفاً على هذه الليلة، كما في رواية حنا مينه (فوق الجبل تحت الثلج.. الدقائق الأولى من عام 1990) والتي صدرت عام 1991؛ أم كانت منطلقاً كما في أغلب الروايات، ومنها رواية صنع الله إبراهيم (67) التي كتبها عام 1968، وتعذّر نشرها في مصر، بأمر الرقابة، ثم تعذر نشرها في بيروت، لأن دور النشر التي تقدم الكاتب بروايته إليها رفضتها جميعاً، بدعوى الهوس الجنسي لبطل الرواية، أي بأمر رقابة أخرى، ربما ليست مؤسسية كما في مصر، لكن التعلّة واحدة: الرواية تخدش المحرم الجنسي.
بعد أكثر من سبعة وأربعين عاماً من المبيت في الأدراج، نُشرت رواية (67) في مجلة (عالم الكتاب) في عدد يوليو - أغسطس 2015. وقد تولى الراوي الذي يظل بلا اسم سرد الرواية التي تبدأ بالاحتفال بليلة رأس السنة في بيت أخيه.
والراوي الشاب الثلاثيني صحفي يساري خرج من السجن حديثاً، ويقيم في بيت أخيه، حيث يراقص زوجة أخيه ويراودها، فتستجيب، وهي ذات العلاقات المتعددة مع صديق لزوجها ومع مديرها ومع حبيب قديم. كما كانت للراوي المتقوقع على ذاته علاقات شتى، ابتداءً بابنة الجيران. ومن رأس السنة إلى الخامس من حزيران عام 1967، عندما بدأت ما عرفت بحرب الأيام الستّة التي انتهت بالهزيمة العربية المدوّية؛ دأب الراوي على تسجيل يومياته بالتفاصيل التي وسمت أسلوب صنع الله إبراهيم منذ (تلك الرائحة - 1966).
تتوجت الهزيمة باستقالة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وانهيار الأحلام القومية، مما تمثّل في الرواية بالصحفي صادق، صديق الراوي، إذ كان يحلم بالنصر الذي سيحمله إلى تل أبيب ليكتب منها مقالته القادمة. أما الراوي فيحاول أن ينهي علاقته بزوجة أخيه، وينتقل إلى بيت صديق له، لكن المرأة تطارده.
بنى الكاتب روايته بتخصيص فصل لكل شهر من شهور السنة. وكما في باكورته (تلك الرائحة)، ومن بعد في مدوّنة الكاتبة الروائية الكبرى؛ تعلن السيرية عن نفسها بقوة، سواء بشكل اليوميات الذي اتخذته في رواية (67) أم بسواه. وللكاتب رواية أخرى يتلامح فيها رأس السنة، هي رواية (1970) التي صدرت عام 1971. فمطلع الرواية هو (أول يناير) ومما فيه من (أخبار) يسردها الراوي أن الراقصة نهاد صبري لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها لسهرة رأس السنة، إذ رقصت في تسعة عشر حفلاً، وأخلفت مع أربعة، بسبب جرح في مشط قدمها اليسرى. كما يخبر الراوي في مفتتح الرواية أن المقاومة الفلسطينية هاجمت في الأول من يناير 1970 خمس مستعمرات إسرائيلية في منطقة الجليل.
بعد مصر، تطالعنا من لبنان رواية (ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس 2022) للصحفي والروائي سمير عطا الله الذي نشر قبل الرواية، وبعنوانها نفسه، ما نسبه للكاتب البرتغالي رودريغيز دي سيلفا. وأكمل سمير عطا الله هذا التنكر بتسجيل أنه المترجم لنص سيلفا.
لكن غواية الرواية حولت النص الذي صنفه بعضهم قصة قصيرة، وصنفه آخرون مقالة، وجعلت الكاتب يحول الصفحات المعدودات إلى رواية قصيرة (نوفيللا) باسمه الصريح، وبالعنوان نفسه أيضاً. وتبيّن بالتالي أنه ما من كاتب برتغالي اسمه رودريغنر دي سيلفا، وما من جزيرة برتغالية اسمها دوس سانتوس، وما من بلدة على شاطئ الأطلسي اسمها إيستوريا دي ليبرداد. وكما كتب سليمان بختي عن هذه الرواية واللعبة، مستعيراً من الرحابنة: (لا القصة حقيقية، ولا الضيعة موجودة، وفي حدا خرطش على الورقة).
يكشف سمير عطا الله كل ذلك فيما قدّم به لروايته التي ترامى فضاؤها من لواندا في أنغولا إلى لشبونة إلى إيستوريا دي ليبرداد إلى الجزيرة التي تعنونت الرواية باسمها. وإذا كانت لواندا وإشبيلية واقعتين جغرافيتين، فإستوريا والجزيرة متخيلتان. وتتمحور الرواية بخاصة حول المدرس المتقاعد رودريغز دو سيلفا الأديب الذي يكتب الأغاني، ويكتب الشعر للأطفال. والذي اختار العزلة في إيستوريا الساحلية إلى أن دعته شقيقته إلى أن يمضي عندها ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس. وقد انعطفت به تلبيته الدعوة، وجمعته بالمذيعة الشابة الفاتنة لارا أندريا ريبيرو، والتي تحفظ من شعره.
أعادت السهرة مع لارا الشيخ إلى فتوته، عندما عشق ويندا، فحرمته أمه العنصرية منها، مما أورثه عقدة نفسية مكينة جعلته ينأى عن النساء. وما إن (راحت السكرة وجاءت الفكرة) كما يقول المثل الشعبي، وانطوت ليلة رأس السنة حتى أفاق المدرس المتقاعد على الخيبة. ومن بعد يلتقي في السفينة بحبيبة عمه السابقة صوفيا التي تقصد ديراً في لشبونة، وتقدح الشرارة بينهما، فيصطحبها إلى حيث يقيم في إيستوريا دي ليبرداد. غير أن العلاقة لا تدوم طويلاً، فتمضي صوفيا إلى الدير، ويمضي رودريغز إلى معتزله.
للمذيعة لارا برنامجها الذي يستقطب إعجاب المشاهدين، وقد أضفت على الرواية ظلاً شفيفاً من الرمزية، تجلّى في تحيتها للمشاهدين مع سقوط الديكتاروية وانتصار ثورة القرنفل عام 1974، عندما قدمت سيليستي كاييرو القرنفل للجنود في الشوارع إثر الانقلاب العسكري، وتبع المتظاهرون كاييرو، ووضعوا القرنفل على ثياب وبنادق الجنود. وقد تعززت صورة لارا بتغطيتها لجنازة الأسطورة أماليا رودريغز في عام 1999، وهي الممثلة والمطربة التي لقبت بصوت البرتغال وملكة الفادو. والفادو هو روح البرتغال المجبولة من الغناء والموسيقى. غير أن لارا لم تنظر إلى رودريغز بمثل ما نظر هو إليها عاشقاً، بل رأت فيه صورة الأب، فمضى بعد تجرع الخيبة إلى صوفيا التي غادرت لواندا مع أسرتها إلى بلدها. وقد دفع الفقر والجوع ومرض الأب بصوفيا وشقيقتها إلى تجارة الجسد. وكان أن قبضت عليها الشرطة، وانتشلها الكولونيل فابيوس مما هي فيه لتكون خليلته. ثم يكون لقاؤها برودريغز. لكن المفصل الحاسم في حياتها لن يكون في هذا اللقاء.
تتعدد أسئلة الرواية من تاريخ أفريقيا والبرتغال والاستعمار والديكتاتورية والثورة، إلى أعماق الشخصيات الروائية: (العجوز الذي يقع في غرام شابة، مثلاً) والصبوات والأحلام والآلام، ما خلاصته تتمثل في الحرية والإبداع. والإبداع هنا يتعلق بالفن متجسداً بأماليا رودريغز، وبالشعر متجسداً بفرناندو بيسوا.
من الروايات الأكثر أهمية، والتي تتعلق برأس السنة، رواية واسيني الأعرج (2084 حكاية العربي الأخير - 2016). والرواية التي تنادي رواية جورج أورويل (1984)، وليس في عنوانها فقط، تُفتتح بالاحتفال بليلة السنة، حيث يتكوم آدم، بطل الرواية العالم النووي العربي الأصل، الأمريكي، وهو العربي الأخير، وتتلامح له زوجته اليابانية آمايا المتخصصة في الطب النووي رداً على قنبلة هيروشما. ويبدأ الاحتفال بليلة رأس السنة بالجد بيغ بروذر الذي علّم الجميع ما لم يعلموا. ويبني الكاتب روايته بالمناوبة بين مونولوجات آدم المسكون بالذئب (رماد) وبين وقائع الاحتفال. وقد سبق لي أن كتبت مفصّلاً عن هذه الرواية - وعن سابقتها لواسيني الأعرج (أصابع لوليتا - 2014) والمتعلقة برأس السنة أيضاً - وذلك في كتابي (الإشارة والمعنى - 2018). وخلاصة ما كتبت أن آدم يراقب أرقام الساعة ليلة رأس السنة إلى أن يكتمل العدد الجديد من السنة الجديدة التي جاءت وكأنها ولادة عسيرة، فتذكر آدم جورج أورويل حين كان يهدئ من روع حيوانات حظيرته التي أرعبها قدوم السنة الجديدة: (سنة مضت، وأخرى جاءت، ولا شيء يتغير في نظام الأشياء: الغبار نفسه، العويل نفسه، والموت نفسه). وفي الختام تغيب عن آدم نداءات الذئب، وهو الذي لم يشعر بانقضاء سنة وقدوم سنة، لكنه تأكد من أن شيئاً يخصه قد تغير نهائياً. هكذا حضر وجه سيد القلعة مباركاً لآدم بالسنة الجديدة. وسيد القلعة هو حفيد أحد أبطال رواية (1984). ويخبر سيد القلعة آدم أن أبواب القلعة ستفتح لمشردي (آرابيا) كي تغذيهم، كجزء من الاحتفال العظيم؟ ويرى آدم في الفجر الآرابيين - أي نحن العرب - ينتظرون ما تجود به القلعة، فذلك هو ما ينتظرنا، ذلك هو مستقبلنا الذي لا نستحق أفضل منه ما دمنا على ما نحن عليه.
أما رواية واسيني الأعرج (أصابع لوليتا)، وهي التي تنادي رواية نابوكوف (لوليتا)، فيأتي الاحتفال بليلة رأس السنة في الحركة الفاصلة التي تختتمها، حيث تُعِدّ لوليتا العدة للاحتفال مع حبيبها يونس مارينا الذي يقول: (سنفتتح سنتنا الجديدة بفصل حي أتمنى ألا ينتهي أبداً. قد يكون فصلاً في الجحيم، ولكنه سيكون جنتنا. هذه أول سنة حب، وأريد أن أهديها كل ما هو استثنائي). وبالمقابل، تهدئ لوليتا هواجس يونس معلنة أنهما سيحتفلان بأجمل عيد ميلاد لها، وبرأس السنة. غير أن لوليتا ستنكشف عن إرهابية تفجر نفسها في شارع الشانزليزيه في باريس الذي يقفل أبوابه في نهاية السنة. بينما يتوالى الاحتفال في الشارع.
ثمة رواية تنفرد بالاحتفال بليلة رأس السنة الهجرية، هي رواية (كرنفال المدينة) لنزهة الرميلاوي الفلسطينية. وليس الاحتفال إلا حركة ثانوية من حركات الرواية المتواضعة فنياً، والتي تحاول أن تقدم صورة بانورامية لمدينة القدس وللحياة الفلسطينية التي تعري الرواية عوراتها من البطالة والمخدرات والعمالة والفساد، كما يحضر النقيض في شخصية تامر بخاصة. وإلى ذلك يحول الاحتلال حياة الفلسطينيين إلى جحيم، منه قمع الاحتفال بليلة رأس السنة الهجرية، حيث احتشد في شارع صلاح الدين كشافة مع طبولهم وجمع غفير، وتعالت الهتافات الوطنية. ومقابل هذا الاحتفال يقوم في الساحة الغربية من حائط البراق احتفال يهودي يحرسه الجنود.
من سوريا تتقدم رواية حنا مينه (فوق الجبل تحت الثلج.. الدقائق الأولى من عام 1990). بتصوير سهرة العاشقين الاستثنائية ليلة رأس السنة، وهما الشاعر والصحافي اللبناني الكهل مران الطوراني، والبلغارية الحقوقية بربارة ألكسندر وفيتش، أما الاستثنائي فهو ما اقترحته بربارة من السهر في الثلج. وستمتلئ السهرة بما يقصّه كل من العاشقين عن حياته، حيث تتكشف مباذل ومفاسد المجتمع البلغاري بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وكواكبه الاشتراكية. ويتضاعف الاستثنائي بالعاصفة الثلجية التي تعصف بالعاشقين في الغابة، نظيراً لما يعصف بالمجتمع، ولما عصف بماضي كل منهما.
بالطبع ليس ما تقدم كل ما كان لليلة رأس السنة في الرواية العربية، لكني أحسب أنه الأهم في حدود اطلاعي. وإذا كانت هذه الليلة - اللحظة مفصلية بأي معنى شئت، فهي كذلك في الرواية، لأن الزمن/الزمان هو التحدي الأكبر للرواية، كما هو للفكر والفن عموماً، والإنسان خاصة.

ذو صلة