مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ترانيم طفل من جزيرة عشتار

في الظهيرة، الشمس تتوسط السماء، ترسل أشعتها، حرارتها، على كل شيء، أعمدة طويلة، أجزاء صغيرة من جدران، بقايا أحجار متناثرة هنا وهناك، بقايا قلعة عشتار.. ما أن تصل حتى تعانق عيناك كل شيء، تتلمس يدك كل الأحجار الشامخة، أو أخواتها المتناثرة، حصن، قلعة مازال التاريخ يذكرها، ويذكر ملكتها ورجالها، ومازالت الأقلام تكتب عن أمجادها الماضية وعن رائحتها الباقية، وأصوات الشعراء تتغنى بملكتها، وفرسانها ورجالها، وألوان الرسامين تبدع رسم لوحة للماضي، حيث لتلك الملكة التي هزمت الرجال، وذلك الفارس الذي وقف صامداً أمام جحافل الأعداء حتى آخر نبضة من نبضات قلبه، ومازالت أجساد السياح وأرواحهم وأقدامهم على مدار العام تهرول نحو الأحجار والأعمدة، وما أن تصل حتى تقف احتراماً واستغراباً، مبهوتة من هذه التحف الهندسية القديمة التي مازالت تتحدى كل شيء، قبل مئات السنوات لم تكن النجوم حزينة! وكان القمر يرقص، وكان الليل ينتظر رحيل النهار، والآن سيكون ظلاماً، وإذا أنصت بكل حواسك، سوف تسمع صوت الأطفال يلعبون، وابتسامة ملكة عشتار، وأقدام الجنود وهي تستعد لتغيير الحراس، وحوافر الخيول، يقولون: قبل قرون صنعها رجال، لا نعرف أشكالهم، ولم نسمع أصواتهم، ولم نر ملابسهم، قرأنا في الكتب، أنهم كانوا رجالاً صنعوا تاريخهم، وأقاموا دولتهم.. ماذا لو تحدثت الجدران؟ ماذا لو صرخت الأعمدة؟ ماذا لو ثارت الحجارة؟ لكل شيء رائحة جميلة كرائحة ورد الليل، أعمدة طويلة وكأنها تحاول أن تصل للنجوم، أن تطبع قبلة على وجه القمر.. حروف وأرقام كتبت على الجدران منذ مئات السنين ومازالت باقية.
هل يعلم من كتب هذه الحروف والأرقام، أن أجيالاً قادمة سوف تقرأها، وماذا يريد من القراءة؟ هل هو عاشق مات مخنوقاً بعشقه؟ هل كان يريد أن يخبرنا بحظه العاثر مع معشوقته؟ أم أن هذا الجدار شاهد على لقاء العذارى، يتبادلن أجمل لحظات الكون، هل مرت من هنا الملكة وكتبت اسمها؟ هل رمت بجسدها على أحد الجدران لترتاح قليلاً من عناء كل شيء؟
عندما تخطو بقدميك في الساحة، تحس بأنك تخطو على جمال.. إبداع.. خيال.. ساحة كبيرة.. ماذا فيها؟ هل دفن أحد في هذه الساحة؟ ومن يكون؟ هل أمشي على جثث؟ أم على جثة فتاة قتلت بحوافر خيول الأعداء؟ أم قتلها العشق؟! أم على جثة أم ثكلى قتلها العمر وهجران الأحبة وموت الأبناء في جيش الملكة؟ أم على جثث الجنود الذين قاتلوا الأعداء حتى آخر نفس، وهم يرددون اسم الملكة، ويرددون نشيد الحب للوطن وللملكة؟!
هل وضع فارس يده هنا؟ هل كان يعلم من صنع هذه القلاع أن أجيالاً من بعيد ستقطع المسافات لترى، لتتمعن في هذا الجمال الباقي؟ من صنع كل هذه القلاع والأعمدة؟ أهم أحرار فأحبوا ما صنعوا، وافتخروا؟ أم هم عبيد مغلوبون على أمرهم، كانت حرارة الشمس تشعل أجسادهم، والسياط ترقص على ظهورهم؟ حفاة، عطشى، مسلوبون حتى من الإنسانية، لدرجة أن التاريخ لم يذكر أسماءهم، ونسب الفخر والمجد لآخرين؟
فجأة أرى غباراً خفيفاً كأن الجدران تحركت، والأعمدة تمايلت كورقة الزيتون، وتحت قدمي حركة أصابتني بالهلع.. أدرت رأسي بكل الاتجاهات.. وقف بصري عند إحدى الجهات، امرأة، بل ملكة هذا المكان، خلفها وأمامها جنود وبعض من رعاياها.. صعدت الملكة، على بعض الأحجار، حتى وصلت لمكان مرتفع أعد خصيصاً لها، يا إلهي الملكة! أنا أرى الملكة، كأني أمام طول زوجتي، ووجه بملامح وجه ابنتي الصغيرة، خطواتها خطوات أمي، وصوتها الصحراوي كصوت أختي، وشعرها الليلي كشعر خالتي، يا إلهي.. أحد الجنود الذين يقبعون خلفها نفخ في بوق، تبعها آخر وآخر، دخلت مجموعة من الفرسان، كوَّنوا حلقة دائرية بعد أن أدوا التحية للملكة، هتف الحضور بصوت واحد، وصل صداه عنان السماء وقمم الجبال الرواسي.. تقدم سوط الساحة فارسان تقاتلا بالسيف والرمح والحديد، استمرت المبارزة وقتاً طويلاً حتى انتصر أحدهما على الآخر، صفق وجلجل الجميع للمنتصر، مع تحية للفارسين سوياً، بعدها قامت الملكة تريد الانصراف، وكان الجنود والرعية كما كانوا عند دخولهما المهيب، فجأة وقف الجميع، وأدارت الملكة وجهها نحو الساحة، ونظرت كأن جمال الأرض والسماء فيها، وكأن تلك النظرة تريد أن تغسل الخدود، كانت النظرة الأخيرة على ملكها.
هدأت الجدران والأعمدة واختفت الحركة من داخل الأرض، التفت إلى أحد الجدران.. رأيت الفارس المنتصر في المبارزة يقف مع فتاة كأنها إحدى النجمات نزلت للأرض، شعر كأنه قطعة من الليل، مسترسل يكاد يغطي جزءاً كبيراً من جسدها الغض.
- كنت بارعاً في المبارزة.
- لم يكن يهمني أحد حتى الملكة، كان همي أن أنال استحسانك أنت فقط.
- أنت بارع حتى في الحديث وامتلاك القلوب.
أتمنى هذا يا سيدة القلوب والفرسان.
اختفى الفارس ومعشوقته، هدأت الأمور رجعت النسوة للعين والرجال للحمام يغسلون أجسادهم من التعب.
أتى الرجل الأبيض من بعيد يشتري بثمن بخس تماثيل، ورسومات، ليزرعها في بلده.. وبقيت عشتار، وبقايا أعمدتها وجدرانها الصامدة، ومازالت تحكي للأجيال.. إلهة الحب والعشق (عشتار).

ذو صلة