مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

ألكسندر بوشكين أمير الشعر الروسي

يُعدّ ألكسندر سيرجييفتش بوشكين، مؤسس الأدب الروسي الحديث، وأعظم شاعر وأديب في تاريخ روسيا كلها. يعترف بذلك كبار الأدباء والنقاد الروس، حيث قالوا عنه: (كلنا نمشي على هدى بوشكين). وسموه أيضاً (شمس الأدب الروسي)، وسماه مكسيم جوركي: (بداية البدايات في الأدب)، وهو شاعر الحرية كما سماه الناقد الروسي الكبير بيلينسكي. كان شاعراً عبقرياً، بدأ يكتب الشِعر منذ شبابه، ويدعو للحرية في شِعره وأدبه. وُلِدَ في مدينة موسكو في روسيا بتاريخ 1799م، وهو ينتمي لعائلة من أصول أرستقراطية بارزة في التاريخ الروسي، تُصنف من سلالة النبلاء، ويعود تاريخها للقرن 12م. ظهرت مواهب ألكسندر بوشكين الشِّعرية في سن مبكرة، حيث التحق في عام 1811م، (بالليسيه) في بلدة تسارسكوي سيلو (أُطلق عليها اسم بوشكين فيما بعد) وبدأ فيها نشاطه الأدبي.
ملامح شرقية
ومن أسباب تأثر بوشكين بالثقافة العربية والإسلامية والشرقية عموماً أنه يعود من جهة جده -أبي أمه- إلى أصول أفريقية، حيث كان جده إبراهيم حبشياً اشتراه السفير الروسي في إسطنبول وهو في الثامنة من عمره من الأتراك الذين أسروه، وأرسله السفير إلى القيصر هدية، وأثبت إبراهيم أنه خارق الذكاء فقربه القيصر من نفسه، وأرسله ليتعلم في الكلية العسكرية في باريس، وترفع في المراتب حتى وصل إلى درجة الجنرال، وكان من طبقة النبلاء، وأصبح ابنه يوسف جد بوشكين من جهة أمه، فلعبت الجذور الشرقية الأفريقية دوراً في تأثر بوشكين بالشرق، وكان بوشكين قد اطلع على ترجمات بولديريف عن الفارسية والعربية المنشورة في مجلة (بشير أوروبا)، وكان بينها مقتطفات من الأسطورة الشعبية العربية (مجنون ليلى) والحكم والأمثال العربية المأثورة. وقد نشر بوشكين في مجلة (الرسيل الأوروبي) رسالة شعرية عنوانها: (إلى صديقي الشاعر) (1814م). وفي عام 1830م، سافر بوشكين إلى منطقة (جوركي) للاستجمام هو وعائلته، وكتب هناك أربع مآس صغيرة: (الفارس النهم)، و(موزارت وساليري) و(الضيف الحجري)، و(وليمة في زمن الطاعون). كما عُرفَ بوشكين بقصصه القصيرة، ولاسيما مجموعة (حكايات الراحل إيفان بتروفش بيلكين)، بما فيها الطلقة التي لاقت رواجاً كبيراً. وقد ذكر المستشرق الروسي كراتشكوفسكي بأنّ بوشكين قد قرأ باهتمام شديد الترجمات الفرنسية لمؤلفات أحد بشائر الأدب العربي الحديث، الأديب المصري الأصل الفرنسي الإقامة يوسف يعقوب (1795-1832م). وقد توطدت الصداقة بين بوشكين وبحار مصري يدعى (علي) كان يتردد على ميناء أوديسا وقت إقامة الشاعر هناك (1823م)، وقد عبر بوشكين عن اعتزازه بهذه الصداقة، التي كانت بالنسبة له وعلى حد تعبيره (المتعة الوحيدة). وقد كان بوشكين يعلل ارتباطه الروحي بالبحار المصري (علي) بأنه (من يعرف فربما جدِّي وجدُّه من أقرب الأقارب)، وكتب عام (1827):
تحت سماء أفريقيا ولدت
وعشقت الحياة في مصر
لكني هنا مفتون بك
ونسيت وطني
وكل كنوز الأرض
مداركي الرائعة
أهبها لعينيك الزرقاوين
وخصلات شعرك المتموجة
منفياً في الشمال
تجدر الإشارة إلى أنَّ توجهات ألكسندر بوشكين الأولى كانت ثورية ومضادة لأفكار الطبقة الأرستقراطية التي ينتمي إليها، حيث كانت هناك ليبرالية تطبع أفكاره، متأثراً بأوروبا الغربية وعصر التنوير والثورة الفرنسية، ولهذا نفته السلطات القيصرية إلى جنوب روسيا، في عهد القيصر نيكولاس الأول، وسرعان ما انفتحت السلطات الروسية عليه، حيث أصبح المؤرخ الخاص في البلاط الروسي.
شغل بوشكين منصباً في وزارة الخارجية الروسية في سانت بطرسبورغ عام 1817م، وسعى بوشكين من خلال أشعاره الممزوجة بالسياسة والتي انتشرت في مجتمعات سانت بطرسبورغ إلى توجيه انتقادات لاذعة إلى كبار المسؤولين الروس من أجل رفع الظلم والاستبداد عن المجتمع، ونفي بسبب ذلك إلى مقاطعة يكاترينوسلاف، وانتقل من هناك إلى جزيرة القرم. وكان الوضع النفسي والاجتماعي والسياسي للشاعر بوشكين يفرض عليه كتابة بعض قصائده، فمثلاً كتب قصيدته (محاكاة القرآن) عام (1824م) وهو في قرية نائية صغيرة تدعى (ميخايلوفسكي)، حيث كان منفياً في الشمال. في تلك الفترة قرأ القرآن، وبرز له شخص الرسول العربي صامداً صابراً، فوجد في آيات القرآن الملجأ والملاذ في ذلك المكان القصي البعيد، وفي ذلك الزمان الموحش، وربما هذا ما دفعه ليقول:
في المغارة السرية
في يوم الهروب
قرأت آيات القرآن الشاعرية
فجأة هدَّأت روعي الملائكة
وحملت لي التعاويذ والأدعية
وحسب النُّقاد الروس حاول بوشكين في هذه القصيدة تمجيد الله والإقرار بقدرته، وكذلك النزعة الإنسانية وفكرة الإله الجبار. وتصوير المضمون الأخلاقي للقرآن.
آثار أدبية خالدة
يُعرف عن بوشكين ميوله المتمردة وحبه للحرية، وقد ترك آثاراً أدبية هائلة وهو في سن الشباب، حيث تفتخر روسيا ببوشكين وبأدبه وشعره الذي لم يمر على روسيا مثله، لا من قبل ولا من بعد. لقد نفي إلى القوقاز من قبل القيصر (1820م)، ومن تلك المناطق كان على اتصال مباشر مع حياة الشعوب الإسلامية، وخلال حياته هناك ظهرت قصيدته الشهيرة (أسير القوقاز) و(باختشي سراي) (نافورة الدمع). وقد استخدم في هذه القصائد كلمات الشاعر الفارسي ساعدي مثل: العديد من مثلي زاروا هذا الينبوع، ولكن على خلاف ذلك لا أكثر، في حين أن آخرين يهيمون على وجوههم بعيداً.
وأبدع بوشكين أعمالاً متميزة ومتأثرة بروح (ألف ليلة وليلة)، مثل: (روسلان ولودميلا) و(ليالٍ مصرية) و(أندجيلو)، وقصيدتي (القمر يتألق) و(التعويذة).
ويرى الأكاديمي السوري/الروسي محمود الحمزة بأنّ (النقاد الروس لم يبرزوا تأثر بوشكين بالثقافة العربية الإسلامية، وقليل منهم كتب عن هذه المؤثرات العربية الإسلامية باعتبارها ذات تأثير ثانوي على إبداع بوشكين، وهذا يجافي الحقيقة).
وقد كتب بوشكين قصائد متأثراً بشخصية العربي، ويقول في قصيدة (من وحي العربي):
من وحي العربي
فتى جذاب فتى دمث
لا تخجل مني فنحن أهل
وبداخلنا لهب عاصف
ونعيش حياة واحدة
لقد تآلفنا معاً
تماماً مثل جوزة مزدوجة
أسفل قشرة واحدة
وله قصائد من وحي التاريخ مثل (كليوباترا)، حيث تحدث عن أفضل امرأة في العالم يقول إنها كليوباترا، لأنها تعدّ تجسيداً للأنثى الحقيقية.
التأثر بالقرآن الكريم
كتب قصائد مطولة بإيحاء من القرآن الكريم وسيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مثل قصيدة (محاكاة القرآن)، أو (قبسات من القرآن) و(قصيدة النبي). حيث حاول بوشكين ألّا ينقل محتوى القرآن الكريم فقط، بل خصوصيته الشعرية والجمالية في كلماته المقدسة. وكانت ترجمة فرنسية للقرآن الكريم قد ظهرت بين يدي بوشكين عام 1824م، ساهم ذلك في ظهور الكثير من الروائع الأدبية عند بوشكين بفضل نموه الروحي، ومن بين هذه الروائع الأدبية قصيدة (تاليسان) التي كتبها في عام 1827م. واختلف الباحثون في تحديد الأسباب، التي أثارت اهتمام بوشكين بالقرآن الكريم، حيث تقول الباحثة تاتيانا آرلوفا: (إنَّ اهتمام بوشكين بالقرآن الكريم كان مرده لأسباب شخصية، وكان من الضروري أن يشعر بوشكين تجاه القرآن باهتمام شخصي خاص)، أَمَّا الناقد يفغيني ستراخوف، فيقول: (القرآن على ما يبدو لديه القدرة على التأثير بقوة في الناس). وقد كتب الناقد الروسي الكبير بيلينسكي بأنّ قصيدة بوشكين (قبسات من القرآن)، (ماس يتألق في إكليل بوشكين). وكان بوشكين قد اهتم بالقرآن وأعجب به، بل شغف به شغفاً عظيماً. ومن فرط إعجابه به تأثر بآياته وبسيرة وشخصية النبي العربي محمد -صلى الله عليه وسلم، كما تأثر الشاعر بأفكار الإسلام التي تدعو للحرية والعدالة والمساواة. ويقول بعض النقاد ربما تكون (قبسات من القرآن) من أهم أعمال بوشكين من وجهة النظر الفكرية والجمالية:
أقسم بالشفع وبالوتر
أقسم بالسيف وبمعركة الحق
أقسم بنجمة الصبح
أقسم بصلاة العصر
اتبع درب الحق بهمة عالية
أحبب اليتامى، وبشر بقرآني
للمخلوقات الضعيفة
ومن الجدير بالذكر أنّه في عام (1880م)، أثناء تدشين النصب التذكاري لبوشكين في موسكو؛ ألقى الروائي الشهير فيودور دوستويفسكي قصيدة (النبي) هذه مكتفياً بها، ما يؤكد أنها كانت قصيدة ثورية في حينها.
الكلمة الأخيرة.. مقتل شاعر
لم تكن حياة الشاعر بوشكين تقلُّ مأساوية وإثارة عن أدبه وأشعاره، فقد عاش الحياة شعراً ومات شعراً بشكل درامي، ففي تاريخ 27 كانون الثاني/يناير عام 1837م، تعرض الشاعر والأديب الروسي بوشكين للاستفزاز من قبل المبعوث الهولندي ضابط الخيالة دانتس، وذلك بدافع وتشجيع من سلطة البلاط، إذ تسبب هذا الأخير بتلويث سمعة بوشكين وعائلته، فاضطر بوشكين- (أسير الشرف) كما دعاه ليرمونتوف في قصيدة رثائه الشهيرة (مقتل شاعر)- أن يدعو دانتس للمبارزة بالمسدسات التي تمت في 27 كانون الثاني 1837، بالقرب من بطرسبورغ، جُرح بوشكين جرحاً عميقاً، صارع بوشكين الموت على مدى يومين دون أن يفقد وعيه ليقول كلمته الأخيرة: (انتهت الحياة) في 29 كانون الثاني/ يناير 1837.

ذو صلة