مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

اختيارات الشعراء.. جمهرة الجواهري مثالاً

اختيارات الأشعار قديمة جديدة، ولعل أول مَن فعل هذا هو اللغوي الأديب الراوية: المُفَضَّل الضَّبِّي، المفضل بن محمد (ت 168هـ) في كتابه (المُفَضّليّات)، ثم الرّاوية واللغوي الأديب: الأصمعي، عبدالملك بن قريب (ت216هـ) ثم الشاعر، والأديب المعروف: أبو تمام، حبيب بن أوس المتوفّى (ت 231هـ) في (الحماسة) أو (ديوان الحماسة)، الذي تناوله العلماء بالشرح، والشاعر الكبير الوليد بن عُبيد البُحْتُري (ت284هـ) في (الحماسة) على مثال حماسة أبي تمام، ثم الأخوان اللغويان الأديبان الشاعران الخالديّان: سعيد بن هاشم الخالدي (ت371هـ)، ومحمد بن هاشم الخالدي (ت نحو 380هـ)، ثم اللغوي الأديب ابن الشَّجَري، هبة الله بن علي (ت550هـ) في (مختارات ابن الشجري)، ثم الأديب العالم: علي بن أبي الفرج البصري (ت656هـ) في كتاب (الحماسة البصرية)، وتوالت الاختيارات بعد ذلك، ومن المعاصرين الذين جمعوا اختياراتهم: الشاعر محمود سامي البارودي (ت1322هـ/1904م)، والشيخ عبدالفتاح أبو غُدَّة (ت1417هـ/1997م)، والشاعر الأديب عبدالله بن خميس (ت1432هـ/2011م) في (الشَّوارد)، وكانت اختياراتهما قائمة على ترتيب الأشعار بحسب القافية، مع ملاحظة أن ترتيب اختيارات أبي غدة على القافية هي من صنع ابنه المهندس الأديب الشاعر محمد زاهد الذي أشرف على طبعها، ومصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق (ت1438هـ/2017م) في كتابه (شاعر وقصيدة)، وأدونيس: علي أحمد سعيد (ما يزال حياً)، في (ديوان الشعر العربي). فالاختيارات الشعرية مجال خاض فيه الشعراء والعلماء والكتّاب القدماء والمعاصرون. وكان أسس الاختيار عند كل واحد منهم يختلف عن الآخر، وإن كان الاختيار يخضع للذوق وما يستجيده المختار.
وفي الختام يأتي في عصرنا هذا الشاعر محمد مهدي الجواهري (ت1418هـ/1997م) في (الجمهرة)، وهي اختياراته من الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي.
والجواهري شاعر معمر كتب الشعر لأكثر من ثمانين سنة، من صباه إلى شيخوخته، وتقحّم ميدان الحرف المنغّم، والقافية المتلازمة عكساً واطراداً، صعوداً وهبوطاً، مع تذوق للأدب، ونخل دواوين الشعراء القدماء والعصريين، فلا شك أن ذلك أعطاه قراءة أوسع وتذوقاً أكبر للشعر، فاختار أروع ما التقطه من شعر. وإذا كان أبو تمّام قد أتمَّ مختاراته وهو في العقد الثالث من عمره، فإن الجواهري أتمَّ مختاراته وهو في العقد التاسع. وهذا يجعل مختاراته من أروع المختارات، ومما زاد من اطمئنان الجواهري على اختياراته أن بعض ما اختاره قد اختاره القدماء في اختياراتهم.
ويتضح أن الجواهري ناقد من خلال مقدمته، إذ استبعد معلّقة عمرو بن كلثوم كاملة، ومطلعها:
ألا هُبّي بِصَحِنك فاصْبَحِينا
ولا تُبقي خُمورَ الأنْدَرينا
لما تصرخ به من ركَاكَةٍ وفَهَاهَةٍ، وتداعٍ -كما يقول- بل يرى أنها ليست في شيء من أشعار العهود التالية للعصر الجاهلي من إسلامية وأموية وعبّاسية حتى يومنا هذا.
وهو أيضاً لا يعترف بارتجال الشعر، في كل أدوار الشعر العربي، وبخاصة ما نُسب إلى الشاعر عبدالمحسن الكاظمي، في القرن العشرين الميلادي، القرن الذي أصبحت مسؤولية الشاعر فيه عمّا يقول ويفكّر أشد وأثقل منها في أي عهد مضى.
ومنهجه في (الجمهرة) أن يأتي بالشاعر الذي يصطفيه، فيعرّف به تعريفاً موجزاً، ثم يشرع في إيراد مختارات من شعره، أما اختياره للشعراء والشعر، فعائد للذوق، وإعجابه بالنص الذي يجمع إلى قيمته الشعرية القيم الخلقية أو الاجتماعية، ويدخل في الاعتبار القصائد التي تتصل اتصالاً وثيقاً بحياة أصحابها الذين تميّزوا باستقلال شخصيتهم وتفرّدهم في اختيار نمط من الحياة ينذرون له أنفسهم ومصائرهم. وهو نادراً ما شرح المُغْلَقات من ألفاظ الشعر على وعورة بعضها، معتمداً في ذلك أن قراء الجمهرة من أهل العلم بالشعر والتحقيق فيه. ولم يتعرض لاختلاف الرواية في الأبيات. ولكن المشرف على الجمهرة ومعدّها الدكتور عدنان درويش حاول شرح كل ما يُستغلق على القارئ فهمه من ألفاظ الشعر.
جاءت الجمهرة في ثلاثة أجزاء (2077 صفحة)، وعدد شعرائها 243 شاعراً من العصر الجاهلي حتى العصر الأموي، وصدرت عن وزارة الثقافة بدمشق 1985، و1990، و1991م. حققها وأعدّها للطبع، وأشرف عليها الدكتور عدنان درويش.
وعمد إلى أن يعطي صورة أوضح ما تكون لكل شاعر من شعراء (الجمهرة) فألزم نفسه أن يختار لكل واحد من هؤلاء، وممن تيسر له شعره فيما بين يديه من مصادر ومراجع، وكانت اختياراته لقوتها وجمالها وشمولها تزيد من صورة الشاعر وضوحاً عند القارئ أكثر ممّا تدلُّ عليه الأبيات المتقطعة، وكان يترجم لكل شاعر ترجمة مختصرة، وقد اختار لكل شاعر قصيدة أو مجموعة قصائد أو مُقَطَّعات، أو بيتين وإن كانت الأخيرة قليلة. ويلاحظ أن كل نصوص الجمهرة وُضعت لها عنوانات خاصة بها مشتقة من ألفاظ النصوص وموضوعاتها.
وكانت مختارات (الجمهرة) بين قصيدة أو قصيدتين، أو قصائد، وقد يُكثر من قصائد الشعراء، مثل امرئ القيس (14 قصيدة)، والنابغة الذُّبياني (12 قصيدة)، وزهير بن أبي سُلْمَى (17 قصيدة)، والأعْشى الكبير ميمون بن قيس (16 قصيدة)، ودُرَيْد بن الصِّمَّة (13 قصيدة) وشاعره الإسلامي المفضل عمر بن أبي ربيعة (27قصيدة)، والفرزدق (24قصيدة)، وابن الدُّمَيْنَة (19قصيدة)، وذي الرُّمَّة (18قصيدة)، ولا ريب في أن كثرة اختياراته لهؤلاء الشعراء تدلُّ على إعجابه بهم.
وقد دفع الجواهري ثمناً غالياً في جمهرته، إذ حرمته من القراءة بعد إنجازها، لما أجهد به عَيْنَيْه، وهو في هذه السِّنّ العالية.
إن قراءة الجمهرة تجعل القارئ يتوقف عند أمور مهمة، مثل: طبيعة اختيارات الشاعر، وهل تختلف عن اختيارات الناقد؟ في ظني أن مختارات الشعراء قد تختلف عن اختيارات الأدباء والنُّقّاد، فذائقة الشاعر تختلف عن ذائقة الناقد، فالشاعر يُعنى بما يروق لذائقته ويُحفِّز إلهامه، والناقد يُعنى بمنهج الاختيارات في اختيار نقاط الضعف والقوة والموضوعات والأساليب، والشاعر أعرف بالشاعر، أو يفترض أن يكون كذلك، لأن خلجات النفس ورائع الحس التي تفجّر الشاعرية موجودة عندهما، فربما كان الشاعر أقدر على ذلك من الناقد، والناس عادة يحرصون على معرفة رأي الشاعر في الشاعر، لأنه أدب من جهة، ونقد من جهة أخرى. والناقد يفلسف الأمور، ويتحرى التفاصيل، ويبحث عن الخطأ والصواب، وهذا أكثر ما يهمّه. والناقد قد يدّعي خدمة الشاعر لكن الواقع أنه يُبرز نفسه على حساب الشاعر ولو كان يمدحه، وبعضهم لا يلتزم الحياد. وقيل: إن مهمة الشاعر أن يقول، ومهمة النحوي واللغوي أن يجدا تأويلاً لكلامه.
وبعد، فهذا عرض لـ(الجمهرة)، لتذكير القارئ بأهميتها وفوائد قراءتها، والشكر لمن حملت (الجمهرة) من الشام في رمضان، الدكتورة فاطمة فاضل العيساوي، فأتحفتنا بها قراءة وكتابة عنها.

ذو صلة