مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

البحث عن الواحة والسراب في رمال العلا

في صحراء قاحلة تحكمها شمس حارقة، ورمال ساخنة في وضح النهار، ونجوم متلألئة وبرودة قارسة في ظلمة الليل، لا يمكن أن نتحدث عما هو أهم وأجمل من الواحة، ولا أقسى ولا أمر من السراب. إذ لطالما عبرت كلمة الواحة عن الأمل والحياة، بينما كان السراب يرمز دوماً إلى الخيال، والغش، والخداع، وخيبة الأمل أو الفجيعة بأمر كان يظن بأنه جميل ولكن تبين بعد ذلك قبحه.
حتى أن كلمة (السراب) ورد ذكرها في القرآن الكريم أربع مرات بصيغ ومعان مختلفة، بينما استحوذت الواحة والسراب على اهتمام ومشاعر الأدباء والشعراء والفنانين عبر التاريخ، فكتبت العشرات من الروايات المثيرة، وقصائد الشعر الجميلة، ورسمت المئات من اللوحات التشكيلية والتركيبات الفنية الغريبة التي تعبر عن هذين المفهومين الاستثنائيين، سواء من قبل الأدباء والفنانين العرب أم الأجانب.
ولعل معرض صحراء X الذي أقيم مؤخراً في منطقة العلا بالمملكة العربية السعودية هو من بين أهم الأعمال الفنية الحديثة التي عكست مفهوم الواحة والسراب بطريقة استثنائية مدهشة، وذلك من خلال مجموعة كبيرة من التراكيب الفنية المبدعة والفنون الجميلة التي تحاكي الطبيعة، والتي قدمها خمسة عشر فناناً من المملكة العربية السعودية، والمنطقة العربية والعالم، وسط المناظر الطبيعية الصحراوية الخلابة في صحراء العلا.
أقيم هذا المعرض الاستثنائي ضمن برنامج مشترك يجمع بين مؤسسة ديزيرت إكس الأمريكية والهيئة الملكية لمحافظة العلا، وهو برنامج يهدف إلى تعزيز الحوار والتبادل الثقافي بين الفنانين والقيمين على المعرض، إضافة إلى المجتمعات المحلية والدولية. ويمكن القول إن معرض صحراء X العلا هو المعرض الأول من نوعه في المملكة العربية السعودية، وربما في المنطقة العربية، الذي يحاكي الطبيعة الخاصة للصحراء ضمن الموقع، حيث تم تشكيله من خلال رؤية إبداعية خاصة تستلهم مفرداتها من الصحراء وتعيد صياغتها وسط الصحراء، بالاعتماد بشكل أساسي على مفهومي الواحة والسراب.
الواحة والسراب يلتقيان في العلا
يستوحي معرض صحراء X العلا، الذي أقيم تحت عنوان (سراب)، أفكاره من السراب والواحات المتأصلة في تاريخ الصحراء وثقافتها. ويقدم الفنانون المشاركون في المعرض أعمالاً مبتكرة تتناول مواضيع عدة من بينها الأحلام، والتمويه، والخيال، والنمو، والتحول، والاختفاء، والاستخراج، والوهم، والأسطورة مع إظهار الاختلاف بين العالم الطبيعي وعالم من صنع الإنسان. كما يستند المعرض إلى أسس من الفنون الجغرافية التي تم تقديمها في معرض (ديزيرت إكس) الذي أقيم في وادي كوتشيلا بكاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، مما يوفر فرصة عميقة لتجربة الفن وتسخيره في حوار مستمر مع الطبيعة في مناطق مختلفة وعلى نطاق واسع.
وهذا ما تؤكده ريم فضة، المستشارة الثقافية لصحراء X العلا وواحدة من بين القائمين على المشروع، بالقول: (إن مفاهيم الصحراء للسراب والواحة ترتبط منذ أمد بعيد بأفكار البقاء والمثابرة والرغبة والثروة. وقد ارتبط مفهوم الواحة بأفكار العثور على الرخاء أو الجنة، في حين أن السراب يشكل رمزاً عالمياً يحكي أسرار الخيال والواقع. وهو يشير أيضاً إلى الجمال غير المفهوم ووفرة الطبيعة في أكثر الأماكن حرماناً -وهي الصحراء- أضف إلى ذلك الرغبة الشديدة لدى البشر وهوسهم بالاستيلاء والسيطرة عليها).
وتضيف ريم قائلة: (يقوم الفنانون المشاركون في المعرض، وجميعهم ممن سبق لهم أن أمضوا وقتاً في منطقة (العلا) وتعرفوا عليها، بوضع تصورات طموحة ومبتكرة بشكل لافت للنظر خاصة بالمواقع، وجميعها تعالج وتعكس مسائل ورؤى عميقة تنبثق من السياق والواقع المحلي، ولكن صداها يتردد ويصل بعيداً إلى الجماهير في جميع أنحاء العالم).
أما رنيم فارسي، المدير الفني المشارك لمعرض صحراء X العلا فتقول من جهتها: (إن لدى الفن، كشكل قوي من أشكال التعبير عن الذات، القدرة على تحويل المجتمعات والمدن والمناظر الطبيعية إلى فن معاصر يشعرك بالمزيد من الاحتياج إلى الأفضل). وتضيف قائلة: (بعد أن عملت لسنوات عديدة على تطوير وتمثيل المشهد الفني السعودي، أستطيع أن أرى أن الفنانين السعوديين اليوم يحظون باهتمام وفرص أكثر من أي وقت مضى محلياً ودولياً. تلعب صحراء X العلا دوراً مهماً للغاية ضمن موجة واسعة من المبادرات الفنية والثقافية التي تشكل النظام البيئي للإبداع في المملكة العربية السعودية).
بينما يؤكد نيفيل ويكفيلد، المدير الفني المشارك لصحراء X العلا والمدير الفني لـ(ديزيرت إكس) على أهمية اختيار العلا لاستضافة النسخة العربية من هذا العمل بالقول: (لقد كانت العلا على مفترق طرق التجارة والثقافة، وما زالت مناظرها الطبيعية وتاريخها العميق يجذب الناس من جميع أنحاء العالم. وتقدم العلا نفسها كموقع مثالي لمعرض يستكشف فكرة الصحراء، وكمكان للتفاعل الثقافي والحوار والتبادل وذلك في تأصيل لخيال الفنانين والمسافرين على حد سواء).
أعمال استثنائية تحاكي الصحراء
بالعودة إلى الأعمال المقدمة ضمن معرض صحراء X العلا، فإن أكثر ما يلفت الانتباه تنوع هذه الأعمال وتفردها، وتنوع المواد الداخلة في تركيبها أيضاً. إذ يعتمد الفنانون المشاركون على كافة المواد المتوفرة في المنطقة، أو تلك التي يمكن أن تتناغم مع المشهد المحيط في المنطقة، وتتنوع هذه المواد لتشمل الرمال الصحراوية والحجارة والأخشاب والزجاج والمنتجات المحلية وحتى القضبان الحديدية الداخلة في بناء سكة حديدية قديمة خرجت اليوم تماماً عن الخدمة.
يلفت انتباهنا من بين الأعمال المعروضة تحفة الفنانة شادية عالم، التي تصفها بعنوان (لقد رأيت آلاف النجوم، ولكن نجمة واحدة سقطت في العلا)، حيث تعتمد الفنانة على المبادئ الرئيسة للهندسة والجمال في تكوين أشكال هندسية نجمية عاكسة ذات دلالات مستوحاة من أدب الصحراء العربية والرياضيات والأساطير. بينما تستوحي الفنانة دانة عورتاني منحوتتها من العمارة التقليدية لمنطقة العلا، حيث تتخذ المنحوتة شكلاً هندسياً مقعراً يشير إلى المقابر النبطية ويحاكي أشكال الجبال المحيطة والوديان والكهوف والتكوينات الصخرية.
ويناقش تركيب سيرج أتوكوي كلوتي، تجربة العولمة والهجرة والمساواة في المياه من خلال تغطية كتل من الصخور الصحراوية الصفراء بأقمشة منسوجة بدقة ومصنوعة من جوالين (كوفور) الصفراء، وهي حاويات بلاستيكية مستخدمة في غانا لتخزين ونقل المياه. بينما تعرض كلاوديا كومتي في عملها الفني المثير تطوراً في عمارة الجدران، والتي تفرض وجودها ضمن النظام الطبيعي لأودية العلا، حيث يحمل كل جدار تركيبة خوارزمية واسعة على شكل موجات متعاقبة، في إشارة إلى صوت وسطح الصحراء.
أما شیزاد داود فيبحر بأفكار الزمن العميق وعلاقة علوم طبقات الأرض وعلوم الأحياء بين أراضي الصحراء والمنطقة القريبة من البحر الأحمر بعمل يضم زوجاً من الأشكال الشبيهة بالشعاب المرجانية التي تعكس أسطحها الحساسة لدرجات الحرارة آثار تغير المناخ وكفاح الجنس البشري المستمر لإيجاد علاقة مستدامة مع نظام بيئي سريع التغير. بينما يبتكر جيم دينيفان المتخصص بالفنون الجغرافية رسوماً وتركيبات فنية طبيعية على شكل مجموعة كبيرة من المخاريط الرملية سريعة الزوال، والتي تناقش أنماطها المتشابكة التحولات في الحجم والوزن التي غالباً ما تشكل تجربتنا في الصحراء ومحاولاتنا لجعل أنفسنا داخل مساحات لا محدودة.
ومن خلال الربط ما بين الطبيعة والتقنية، تقدم ستيفاني ديومر في عملها الفني بعنوان (تحت نفس الشمس) دفينة زراعية تحت الأرض، في إشارة إلى الملاذ الخصب للنباتات المحلية التي يمكن أن تعيش تحت مجموعة كبيرة من الألواح الشمسية على شكل بركة متدفقة تعمل على توليد حلقة نشطة للطاقة حيث يتم تخزين الطاقة الشمسية وتحويلها من خلال عملية البناء الضوئي إلى نمو وتحول. أما العمل الفني الطيني لسلطان بن فهد فيبدو على شكل طائرة ورقية صحراوية، مع إضافة مرايا لإضفاء مظهر السراب، ويضم منحوتة شبيهة بالجرة منقوشة بأربعة رموز تستخدم تقليدياً في المقابر النبطية.
من جهتها تقوم زينب الهاشمي بالاستفادة من جلود الإبل المهملة باستخدامها على قاعدة هندسية مجردة تشبه التكوين الصخري في الصحراء، حيث تندمج هذه المنحوتات من جلد الجمال في الجبال لتعطي مشهداً مموهاً. بينما تقوم أليجا كوادي بوضع هياكل معمارية ترتبط بالقطع الأثرية الطبيعية التي تصادفها على أراضي الصحراء، والتي أعادت ترتيبها وصنعها من جديد بطريقة ضبابية لخلق وجهات نظر متغيرة باستمرار، حتى تلامس الخيط الدقيق بين الواقع والوهم. بينما تقدم شيخة المزروع عملاً جميلاً تصفه بعنوان (قياس طبيعة الفراغ)، وهو عبارة عن هياكل معدنية طولية محشورة في فراغات بين الصخور، لتضفي مشهداً متوازناً للمناظر الطبيعية، كما توازن الحال ما بين الركود والحركة، مما يخلق تركيبة صامتة ولكنها مهيبة.
أما القطعة الفنية لعبدالله العثمان فتشير إلى نظريات انكسار الضوء التي تعود إلى التاريخ القديم لحضارة الصحراء، فمع قواعد من الفولاذ، يتفاعل هذا العمل مع الضوء ويخلق مساحة مشعة تظهر تجربة التقاط السراب لأول مرة. كما يصنع خليل رباح سراباً ضمن بستان على شكل واحة من أشجار الزيتون، حيث تقف في الصحراء ككائنات حية هربت من أراضيها الأصلية ويغلبها الحنين للعودة إليها، في تمثيل للبحث عن الأرض والبقاء والمواطنة.
وتناقش مونيكا سوسنوفسكا من خلال منحوتة فنية معدنية بعنوان (شاهد صامت على الماضي) مكانة العلا التاريخية كمحور مهم ومحطة أساسية للتجارة، بالإضافة إلى إحياء ثقافتها. وتستخدم الفنانة البولندية لتنفيذ تحفتها الفنية عدداً من القضبان الفولاذية التراثية المستخدمة في بناء سكة الحجاز، التي امتدت في وقت ما من التاريخ بين مدينتي دمشق والمدينة المنورة، بعد أن تم إعادة تطويعها على شكل أعشاب جافة عملاقة تنبثق من رمال الصحراء لتعبر بذلك عن الإمكانيات الواعدة للنمو والتحول. أما المشهد الصوتي لأيمن زيداني (السعودية) فيتكون في كهف صخري من مجموعة من الأسلاك الملونة المنحوتة افقياً لتقدم عرضاً سمعياً للموسيقى والأصوات وخطوات الأقدام، مما يخلق مزيجاً من الأصوات التي تضيف المزيد من الحياة إلى أجواء الطبيعة.
في الختام، تشكل الأعمال المقدمة في المعرض مجتمعة تحفة فنية حقيقية، ويمكن القول إن أكثر ما يميزها في الواقع، بالإضافة طبعاً لتنوع مفرداتها وأشكالها ورسائلها، هو تنوع الثقافات والرؤى التي يقدمها الفنانون الذين عملوا على إنجازها، فهم ينحدرون من ثقافات ودول مختلفة من المنطقة العربية والعالم، بالإضافة طبعاً إلى نظرائهم من المملكة العربية السعودية.
ولا شك أن تنظيم هذا المعرض في موقع رائع كصحراء العلا قد ساهم بتقديم قيمة إضافية وميزة خاصة لإبراز هذه الأعمال الفنية، كيف لا وهذه المنطقة تضم موقع (الحجر) الذي بناه الأنباط منذ أكثر من 2000 عام والمدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو. ويؤكد القائمون على المعرض على هذا الأمر بالقول (اليوم، العلا هي متحف حي للتراث والفنون والطبيعة، يعاد إحياء إرثها كوجهة ثقافية حيوية. فمن خلال إعادة رسم حدود الإبداع، تهدف العلا إلى مشاركة القوة التحولية للفنون من خلال منظور تراث العلا وشخصيتها وطموحها).

ذو صلة