مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الأدب القوطي وأدب ألف ليلة وليلة

حققت ألف ليلة وليلة نجاحاً عظيماً في الشرق، ثم امتدّ النجاح الباهر إلى الغرب، بعد أن ترجمها المستشرق الفرنسي أنطون جالان في اثني عشر مجلداً، وقد أسهمت بقسط وافر في تطور الذوق الأدبي، وتحولت إلى مصدر خصب للخيال الفرنسي والأوروبي، متيحة للكتّاب والقرّاء سبيل الهروب إلى عوالم جديدة متحررة من كآبة الكلاسيكية. كما حقق الأدب القوطي نجاحاً كبيراً وامتدّ أثره إلى الشرق، ورغم اشتمال الأدبيْن القوطي وألف ليلة وليلة على أشباح وجنّ وعفاريت ومخلوقات غريبة إلا أنهما يختلفان اختلافاً جذرياً في الكثير من الأشياء.

الأدب القوطي
هو الأدب الخيالي الذي يجمع بين الرومانسية والعناصر السوداء لينتج غموضاً وإثارة ورعباً وخوارق للطبيعة، وعادة ما يحدث الأدب القوطي في قصور متهدّمة وأديرة مغلقة أو طرق موحشة، وتتكون الشخصيات المعيارية في الأدب القوطي إما من راهب شرير أو بطل شجاع أو بطلة ضعيفة مع شخصيات خارقة للطبيعة مثل الشياطين والأشباح ومصّاصي الدماء.
رواية فرانكشتاين
يتميز الأدب القوطي بجوّ مظلم قاسٍ مليء بالأشباح والخرافات، ولا وجود لله العليّ القدير، فالمكان يخضع لسلطة الشيطان بامتياز، فهو جحيم دنيوي لا يستطيع فيه البطل الفكاك من مصيره المحتوم. والغريب أن هذا البطل، ورغم ما يحدث له من بشاعات؛ لم يطلب العون من الله أو حتى من الناس مثل فرانكشتاين الذي كان يحيا حياة طيبة مع أبيه الثريّ وأمه الرائعة التي أنجبت له أخاً صغيراً يُدعى وليام، وكذلك كان يتمتع بصحبة صديقه الرائع هنري ومحبوبته الجميلة إليزابيث، ولكن بعد وفاة أمه متأثرة بحمّى الولادة قرر أن يترك جنيف ويسافر إلى ألمانيا للالتحاق بالجامعة، ولكنه لم يعد إلى جنيف بعد التخرج فقد عكف على البحث والدراسة وكرّس حياته لهما حتى توصّل إلى طريقة مكّنته على مدار عامين من صناعة إنسان من أجزاء قام بجمعها من المقابر واستطاع بالفعل أن يبعث الحياة في هذا الإنسان، وما أن نجح في ذلك حتى بكى ألماً فقد كان يتخيل أنه سيصنع إنساناً جميلاً، وإذا به يجد مسخاً مرعباً فامتلأ قلبه بالرعب وولّى هارباً خارج المعمل وحين عاد في الليل كان المسخ قد اختفى، وفي نفس الليلة أيضاً وصل صديقه هنري من جنيف ليكمل دراسته في نفس الجامعة، كان يمكن لفرانكشتاين أن يخبر صديقه أو حتى أساتذته في الجامعة وكان يمكنه أيضاً أن يخبر السلطات الألمانية أو أي جهة مسؤولة عن المسخ، ولكنه فرض عزلة وسرية بشعة على خطيئته، وكأن قوى خارقة قد لجمت لسانه.
في تلك الليلة أصيب فرانكشتاين بحمى شديدة واضطر هنري للبقاء معه لتمريضه، واستمر ذلك طيلة الشتاء. وبحلول الربيع شفي فرانكشتاين ولكنه تلقى خطاباً بأن أخاه الصغير وليام قد قُتل ولقد اتُهمت المربية جاستن بقتله ووجدوا معها القلادة التي كان الصغير وليام يرتديها، ولقد سافر فرانكشتاين على الفور وقبل أن يصل إلى جنيف بقليل وجد المسخ مختبئاً بين الأشجار فأدرك على الفور أنه هو الذي قتل أخاه، بعدها حضر محاكمة المربية جاستن والتي حُكم عليها بالسجن مدى الحياة، كان من الممكن أن يعترف بكل شيء أمام المحكمة لينقذ الفتاة البريئة وينقذ باقي أفراد عائلته من خطر متربص ولكنه لم يفعل، وآثر العزلة والصمت وحاول بإمكاناته الضعيفة السيطرة على مسخ أقوى منه بكثير.
بعدها استطاع المسخ أن يصل إلى فرانكشتاين وأخبره بوحدته وعزلته هو أيضاً وأخبره بمحاولاته اليائسة للانخراط في إحدى العائلات ولكنها محاولات باءت بالفشل وطلب من فرانكشتاين أن يصنع له زوجة تشاركه همومه وآلامه، ولقد وافق فرانكشتاين على طلبه وسافر بعدها إلى إنجلترا ثم استقر في أسكتلندا ليبدأ عمله في صُنع زوجة للمسخ واستطاع فعلاً تصنيع أجزاء الأنثى ولكنه لم يُرد أن يبعث الحياة فيها خوفاً من أن تصبح أكثر شراً من المسخ، وكان المسخ يراقبه من النافذة فسأله عن سبب توقفه في اللحظات الأخيرة عن صناعة أنثى له فأجابه فرانكشتاين:
أنه لن يستطيع منحه الزوجة فتوعده المسخ، مرة أخرى كان ممكن لفرانكشتاين أن يُنقذ عائلته ومحبيه ولكنه توجه بأقصى سرعة نحو مصيره المحتوم. بعدها غضب المسخ غضباً حاداً وقتل هنري الصديق المقرب من فرانكشتاين، بعدها عاد فرانكشتاين إلى جنيف محاولاً إنقاذ ما تبقى من أسرته وأصدقائه، وهناك أصرّ أبوه على إتمام زواجه من محبوبته الجميلة إليزابيث، وفي ليلة الزفاف قضى الليل كله يتفقد الفندق متسلحاً ببندقية وسمع صراخ إليزابيث وعاد مسرعاً إلى الغرفة ليجد المسخ قد قتلها ويموت أبوه بعدها لأنه لم يتحمل كل هذا الحزن، وجد فرانكشتاين نفسه وحيداً تماماً فقرر تكريس حياته للبحث عن المسخ والقضاء عليه، فقام بملاحقته إلى أن وصل للقطب الشمالي، وقد انكسرت زلاجته. قابل الكابتن والتون وحكى له حكايته ثم تدهورت حالته الصحية وفارق الحياة، ولقد صعد المسخ إلى السفينة لإلقاء الوداع على صانعه وقرر هو الآخر الانتحار حزناً على فراق صانعه. ولقد تحقق للمؤلفة ما أرادت حيث استطاعت أن تبث الرعب بأكبر قدر ممكن في نفوس القراء وانتهت القصة نهاية مأساوية حيث توفي جميع أبطالها بما فيهم المسخ.
ألف ليلة وليلة
بدأت حكايات ألف ليلة وليلة باكتشاف شهريار لخيانة زوجته، فزاد كرهه للنساء، وقام بقتل زوجته، وبعدها كان يتزوج فتاة كل ليلة ثم يقوم بقتلها، ولكن شهرزاد بنت الوزير كانت لديها خطة لإنقاذ نفسها، وإنقاذ بنات شعبها، فبعد أن تزوجت الملك شهريار كانت تحكي له قصة كل مساء تاركة نهاية القصة غير مكتملة، وكانت تعد الملك بأن تكملها في الليلة التالية، وبما أن القصص كانت مسلية جداً، كان الملك حريصاً جداً على سماع النهاية فاستمر بتأجيل قتلها كل ليلة حتى تخلى عن خطته في النهاية.
والجن موجود بقوة في ليالي ألف ليلة وليلة، ولكن ليس لسفك الدماء أو القتل أو الرعب مثل الأدب القوطي، فالجن دائماً موجود لنصرة الحق والخير، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى وجود علاقات رومانسية شديدة بين الجان والإنسيّات مثل حكاية مشكاح وريما، حيث يتزوج اثنان من أبناء ملك الجان من الأختين كاريما وحاليما.
مشكاح وريما
تروي شهرزاد حكاية مشكاح وريما للملك شهريار، وهي تحكيها بإثارة، وهو يسمعها بانبهار، تبدأ الحكاية عندما يطلب الأمير وردان من أبيه الملك صفوان الزواج من الأميرة التي تسكن القصر المقابل لقصرهم، فيظنّ الملك ووزيره أن الأمير وردان قد مسّه شيء من الجنون لأنه لا يوجد في المدينة إلا قصر الملك فمتى وكيف تم بناء قصر في الجوار؟ فطلب الأمير وردان من أبيه الملك ووزيره أن يذهبا معه إلى شرفته وبالفعل ذهبوا إلى شرفة الأمير فوجدوا قصراً عظيماً يفوق قصر الملك جمالاً وفخامة فدُهش لذلك الملك ووزيره دهشة عظيمة فأمر الملك على الفور العبد مرجان بالذهاب إلى القصر لاستطلاع الأمر، فذهب وعاد بعد فترة وأخبرهم بما حدث له هناك حيث أن القصر بلا بوّاب وبه بستان مليء بالفواكه في غير أوانها، وطرق باب القصر وطلب منهم عنباً فأعطوه سلّة من ذهب مليئة بالعنب، وأعطى العبد مرجان السلة الذهبية وبها عناقيد العنب وهذا غير أوان العنب، فازداد الملك دهشة وحيرة من تلك الجيرة.
بعدها قرر الملك أن يستدعي الأميرة الجميلة فذهبت إليه وبدأت تقصّ عليه حكايتها من بدايتها حتى نهايتها، حيث أنها ابنة كعب الغزال -الرجل الفقير- ولها شقيقتان جميلتان مثلها، وكانوا يعيشون جميعاً عيشة جميلة حتى وفاة والدتهن فانقلبت حياتهم بظهور ريما التي كانت تعمل ندابة وعطارة وزوجها مشكاح الذي كان يسرق الأكفان ويبيعها. وبدأت ريما في التقرّب بشدة من كعب الغزال وبناته وطلقت زوجها مشكاح -وإن ظلت على صداقتها معه- لتتزوج من كعب الغزال وتستولي على الكنز المدفون في منزله من أيام قارون.
توافد الناس على منزل كعب الغزال لشرائه وعرضوا مبالغ طائلة، أملاً في الحصول على الكنز، ولكن كعب الغزال رفض كل العروض رغم أنها كانت كفيلة بتغيير حياته تغييراً جذرياً. أخبر كعب الغزال زوجته ريما بأن الدرويش أبو فراج أخبر والده بأن المنزل به كنز من عصر قارون وسوف يجده من لا يقصد البحث عنه. رفض كعب الغزال بيع المنزل كما رفض البحث عن الكنز فقررت ريما قتله وطلبت من مشكاح مساعدتها وتمكنت بالفعل من تسميمه فمات كعب الغزال وبدأت ريما في إساءة معاملة البنات وبدأت البنات في صناعة الغزل، بأوامر صارمة من ريما، وبيعه لشراء الطعام.
وفي إحدى الليالي وبينما كانت كاريما تغزل فوق سطح المنزل وقع الغزل منها فنزلت لإحضاره فوجدت باباً يُفتح لتجد ملك الجان جولان وزوجته الملكة مرجانة، والتي كانت في الأصل تعمل خادمة وتودّدت إليه ليتزوجها بعد وفاة أم أبنائه، وضعت مرجانة المنوِّم في الطعام للملك جولان وبعد أن نام ذهبت لرؤية عشيقها الغول بهلول فاغتاظت كاريما من هذه الخيانة ورمتها بتفاحة في عينها حتى نزفت بشدّة ثم هربت وعادت إلى بيتها وبكل براءة حكت حكايتها لشقيقاتها في حضور ريما التي استغلت الموقف وقابلت ملك الجان بعد أن انتحلت حكاية كاريما وحدّثت الملك بها وزعمت أنها وقعت لها فثار الملك ثورة هائلة وساعدته ريما في الإيقاع بالخائنين وقتل الملك مرجانة وعشيقها الغول بهلول وأعطى الملك لريما جوهرة التاج وطلبت منه أيضاً أن يحبس كاريما لأنها مجنونة وادّعت أنها حاولت قتل شقيقاتها بالسكين وبالفعل حبس الملك كاريما في جزيرة النسيان ووضع عليها حراسة من الجنود الجان، وهكذا تخلصت ريما من كاريما ثم بعدها مباشرة أغلقت بئر العسل على حاليما والتي وجدت في أعماق البئر باباً عليه قفل من ذهب ومفتاح من ذهب. فتحت حاليما الباب فوجدت ياسمين ملكة الحيّات وصديقاتها المقرّبات وهنّ يرتدين ثوب البشريات وحكت حاليما حكايتها لياسمين ملكة الحيّات والتي تعاطفت معها وصدقت حكايتها وقررت مساعدتها. لو كانت هذه رواية قوطية لعضّت ملكة الحيّات حاليما من رقبتها ولقامت صديقاتها بالشرب من دمها، ولكن في حكايات ألف ليلة وليلة تقوم المخلوقات سواء من جن أو حيوانات بمساعدة المظلومين والوقوف معهم، وكلما ضاقت السبل بالمظلومين يرسل الله العليّ القدير من مخلوقاته من ينصف المظلوم وينصر المهزوم. أخذت ياسمين حاليما إلى أبي فرَّاج والذي أخبرهم عن مكان كاريما في جزيرة النسيان وطلب منها أن تذهب إلى ابن الملك جولان المريض كروان لتشفيه بدهان السردان. ذهبت حاليما إليه وأنقذت كروان من مرضه العضال بفضل دهان السردان وتم تحرير كاريما مكافأة لحاليما. تزوجت كاريما من حبيبها زهران الابن الأكبر لملك الجان كما تزوجت حاليما من الابن الثاني كروان، مرة أخرى يتزوج أهل الخير من بعضهم حتى ولو كان بعضهم إنس والبعض الآخر جان.
في ألف ليلة وليلة الجان ليس وسيلة رعب وتدمير لبني الإنسان بل يقف معهم ويساندهم وينقلهم إلى أماكن بعيدة جداً أو صعب الوصول إليها، بل تطورت الأمور هنا أن تتزوج كاريما وحاليما من ابنيْ ملك الجان زهران وكروان. أنهت فاطيما حكايتها للملك صفوان والذي حكم على الفور بأن تلحق ريما بزوجها مشكاح وتدفن حية في مقبرة مثله، وتزوجت فاطيما من حبيبها وردان ابن الملك صفوان، ليتم العثور على الكنز ويعيش الجميع في سعادة وهناء.
وهكذا، يتبيّن لنا أن الأدب القوطي وأدب ألف ليلة وليلة يعرضان سبل الإنسان في الحياة. من يبتعد عن الله ولا يلجأ إليه ستتحول حياته إلى جحيم، حيث سيتربص به المتربصون والأشرار والشياطين مثلما يحدث للإنسان في الأدب القوطي.
وأما من يلجأ إلى الله في كل شيء فإن الله سينقذه من كل شرّ. ومهما عظم البلاء فإن الله مُنْجِيه ويرزقه بكل خير مثلما يحدث للإنسان في ألف ليلة وليلة.

ذو صلة