مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

تفكيكية دريدا ومفارقة زينون وماندلبرو

ربما استفاد دريدا من الفلسفة والعلوم بشكل عام في نظريته التفكيكية التي شغلت الوسط النقدي العالمي بشدة؛ حيث تمرد على النظريات النقدية الموجودة، وأضاف آفاقاً عديدة للتأويل، كما استفاد من الإرث الفلسفي العالمي الكبير من خلال نسف الطريقة التأويلية التي تنطلق منها العديد من النظريات النقدية (البنيوية مثالاً). لقد أشغلت التفكيكية العالم النقدي بجوهرها غير التقليدي، بتعدد طرق التأويل والأفكار والمقاصد، فلا يمكن أن يقتصر التأويل على معنى نهائي واحد، ولا يمكن أن يقتصر التفكيك على مفهوم واحد، كالهدم أو تفكيك النص أو الاختلاف، فهي حالة تآلف وتكامل بين هذه المفاهيم.
لقد تأثر دريدا بأعمال مارتن هايدجر، وبخاصة تلك التي ناقش فيها الحركة الفلسفية المسماة (الفينومينولوجيا) والتي اعتبرها اسماً لطريقة ارتكزت على (الاختزال-البناء والهدم)، ولكن هايدجر لا يعني هنا تجزيء الأشياء، بل دكها وهدمها، وذهب إلى ذلك من مبدأ أن كل دراسة فلسفية هي محاولة من البداية لشق طريق جديد، أي بداية من نقطة الصفر.
زينون واللانهاية وأثر دريدا
هكذا يجب أن نلاحق تأثير دريدا بهايدجر، وبمبدأ التفكيك (الهدم والبناء والأثر) الذي بنى نظريته عليه، فالنص هو مكون إبداعي يحتوي على معانٍ أكثر مما قد تستنبطه التفسيرات المتعددة، والتي تعتمد على المناهج النقدية المعروفة، وهذه التفسيرات تنطلق من نقطة بداية دائماً تهدم التفسيرات الأخرى لتبني على أنقاضها تفسيراتها الجديدة، وهنا يعتمد دريدا على مفهوم الاختلاف الذي اشتقه من المصطلحات الفرنسية (Difference والذي استبدله بكلمة Differance) حيث بدل (الحرف e بالحرف a)، وأتى هذا الابتكار ليغيّر مفهوم الاختلاف المعروف إلى اختلاف تأويلي، يعطي الناقد القدرة على إيجاد معانٍ جديدة متعددة للنص دائماً، ويمكن فهم هذا التغيير في المصطلح أيضاً، بأنه يهدف إلى التأجيل والإرجاء، بمعنى أنه لا يستعجل الحصول على المعنى، بل يؤجل الحصول عليه، تبعاً لمبدأ البحث عن أثر غائب باستمرار، يجب علينا البحث عنه، فالمعنى هو حالة تسبقنا إلى الأمام دائماً، أثر خفي يجب علينا البحث عنه، فهو إذاً حالة لا نهائية من التفسيرات والتأويلات، وهنا يختلط المفهوم الدريدوي بالمفهوم الزينوي العلمي (مفارقة زينون عن اللانهاية). فزينون يقول إذا تحرك الجسم من النقطة أ إلى النقطة ب فلا بد له من أن يصل إلى النقطة ج والتي هي منتصف المسافة إلى ب، ثم سيصل إلى النقطة ت التي هي منتصف المسافة إلى ج، وهكذا في متتالية لا نهائية، فالوصول حالة مستبعدة، لأنه سيكون هناك دائماً نقطة أخرى يجب علينا الوصول إليها أولاً، فهل هذه المفارقة التي تشبه ملاحقة الأثر الغائب عند دريدا شكلت الأساس لنظرية دريدا التفكيكية؟ سؤال قد يكون له أساس ما.
كل ذلك مرتبط بعدم اليقين النهائي بالمعنى الآتي للنص الغائب، وبالتالي عدم قول الشكل النهائي للقالب الإبداعي للنص، لأن ذلك سيشكل مقتله الأدبي حسب التفكيك، لأننا عندما ندرك معناه النهائي فسيصل النص إلى الدرب المسدود، وسيصبح فكرة نهائية سابقة لفكرة جديدة لم تكتشف، هذا هو الارتباك الذي أرّق الكتاب، الذين لا يريدون أن تنتهي نصوصهم إلى نهاية مسدودة، بل أن تحلق دائماً بأفكار جديدة، وهذه هي النقطة التي لا ندركها مطلقاً في اللانهاية. وذلك ما يعنيه الأثر الغائب الذي قرر دريدا أن يلاحقه وأن يرجئه دائماً دون أن يقرر إدراكه، حتى لا يصبح سابقاً ويطيح به نص لاحق، أو بالأحرى معنى لاحق. فما قصده دريدا ليس فشلاً للغة في أن تعطي مفاهيمها، بل هي خصائص الأشياء العقلية والعلمية، فمبدأ اللانهاية يخبرنا بعلمية الأمر كما أخبرتنا نسبية أينشتاين بعلمية الزمن المتلاشي مع السرعة، فعندما نرى منظراً ما، فسيخبرنا كل من يراه رؤية مختلفة له، وبهذا سنحصل عن سلسلة لا نهائية من الرؤى أو التصورات للمنظر.
فراكتالات ماندلبرو اللانهائية والأثر الغائب
هكذا هي لغة التفكيك التي أراد دريدا أن يكسر بواسطتها جدلية الميتافيزيقيا والترتيب البنيوي للتأويل، فمحاكاة الظواهر الطبيعية رياضياً مثلاً، تعطينا مفهوماً واضحاً عن اللانهاية والتفكيك، فكما هو الأمر في النموذج الرياضي (الفراكتال Fractals) (حيث قام عالم الرياضيات بونوا ماندلبرو في عام 1975 باشتقاقها من اللاتينية frāctus، والتي تعني جزءاً هندسياً صغيراً جداً غير منتظم، ذا أبعاد لامتناهية بالصغر، يمكن أن يتألف من أجزاء متشابهة مؤلفة بدورها من أجزاء متشابهة مشابهة للجزء الأم). فعندما يتم تكبير النموذج يمكننا أن نشاهد تفاصيل أكثر، حيث يمكننا نظرياً من تكبير الفراكتال إلى ما لا نهاية، وسيتولد عن ذلك تفاصيل لا نهائية أيضاً، فندف الثلج المتساقطة على كوخ ما في رواية ما، تبدأ كمثلث متساوي الأضلاع، ثم في مرحلة لاحقة يمكن تقسيم كل ضلع إلى ثلاثة مقاطع، ويتم رسم مثلث متساوي الأضلاع باستخدام هذه التقنية، وهذا سينتج مع الزمن منحنى غير نهائي الطول، لكنه يحيط بمساحة نهائية محددة تماماً، فمعنى الكوخ وتأويل سقوط الثلج سيخرج عن نطاق الكوخ إلى لا نهائية زمنية، بينما الكوخ يحجز مساحته الفيزيائية الثابتة. كما هو المعنى عند دريدا غير نهائي ويحيط بنص محدد المساحة والكلمات، وهذا ما يتطابق مع مبدأ الأثر الغائب والإرجاء عند دريدا.
نعتقد أن الأسس العلمية لمبدأ الإرجاء كان لها دور مهم في صياغة التفكيكية أو كانت محاكاة لها، لعدم اطلاع دريدا ربما على التوازي المتقابل للفكرة العلمية، وبذلك يمكن تكرار السؤال: هل استفاد دريدا من المبادئ العلمية؟ ولكن هذا برأيي ليس مهماً بقدر ما تكون المفارقات العلمية أحياناً مطابقة للمفارقات الفلسفية والأدبية النقدية، وهذا التطابق والتداخل سيخلق -بالتأكيد مستقبلاً- نظريات وتفسيرات نقدية أدبية مهمة، فالإسقاط العلمي في الأدب يخلق رؤيا تخيلية أدبية نابعة من منطق عقلاني تطبيقي تخيلي.
يمكن أن نذكر الحلاج ومفهومه عن اللانهائية العليا والمثلى، (فالنقطة أصل الخط)، أي ننطلق من النقطة إلى المطلق-الحق. وهذا لا نهائي لا يمكن إدراكه، وبين النقطة والنقطة يوجد لا نهائي من التموضعات أيضاً، وكذلك يمكن النظر إلى التفكيكية، عندما نأخذ كلمة أو جملة سيختلف حجم التأويلات عنها، فيما إذا أخذنا النص كاملاً، لأنه سيخلق آثاراً غائبة كبيرة (لانهاية) أكبر حجماً من الآثار الغائبة اللانهائية لجملة أو كلمة، وهكذا يمكن ملاحقة المعنى إلى قيم حجمية كبيرة، ولكن ماذا لو لم نصب في تأويلاتنا؟ سؤال مهم يمكن الإجابة عنه كما لو أننا قسمنا على الصفر، فذلك سيكون خطأ بالحالة العلمية، ولكن ذلك سيكون حالة لانهائية من القيم أيضاً، هكذا تستطيع تفكيكية دريدا أن تهرب من الترهل الذاتي دائماً، وربما من قول الحقيقة مباشرة، في الاتجاه نحو غياب غير معروف، يبقى مجهولاً، وعلينا أن نبحث عن أثره المتخفي في النص اللامنتهي إطارياً.
خاتمة
إن التداخل العلمي والفلسفي مع النظريات النقدية الأدبية، حالة جيدة ومهمة، فهي تخلق آفاقاً رحبة للأدب والنقد في تكوين نظريات واقعية أكثر، تمتلك رؤيا تأويلية تطبيقية، وتخيلية واسعة، فكما على العالم أن يتصور مسار الإلكترون وشكله وحركته، دون أن يراه؛ على الناقد أن يتصور معنى وتأويل النص الأدبي الذي يراه أمامه بالصورة التي يخفي وراءها الكثير من الأحجيات التي تكون بحاجة إلى تفسير، وهذا ما يجعل التداخل المنشود، يخلق سبباً قوياً للناقد للذهاب إلى تخيل واسع الآفاق، دون أن يقع في مطب المباشرة التفسيرية، بهذا المعنى كانت التفكيكية، خرقاً للإطار النقدي التقليدي، رغم الكثير من المآخذ عليها، فهي رؤية تخيلية لا نهائية، تعالقت مع النظريات العلمية بقصد أو بغير قصد، فهذا لا يهم الآن، وما يهم هو الحصول على التأويل المناسب للنص، وأن إسقاط العديد من النظريات العلمية على العملية النقدية، قد يحرك الساحة النقدية ويعطي أفكاراً وأبعاداً نقدية جديدة لم نألفها من قبل.

ذو صلة