مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

العصر الآسيوي

يتردد في الخطاب السياسي والاقتصادي وحتى الفكري اليوم الحديث عن بدايات جديدة ممكنة للتاريخ البشري تأتي هذه المرة من الشرق، ومن قارة آسيا تحديداً. هذه القارة المترامية التي ظلت رغم عراقتها خارج التاريخ خصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ولم تتمكن سوى دولة واحدة (اليابان) من مواكبة التطور العلمي والتقني الذي شهدته بلدان الغرب، وأفضى إلى نتائج خطيرة في التاريخ الحديث لعل أشدها خطراً الحروب المدمرة داخل المنظومة الرأسمالية والتوسع الاستعماري الذي آل إلى إخضاع بلدان عريقة في الحضارة والتمدن لهذه القوى الاستعمارية التي استغلت خيرات هذه الشعوب، ودمرت البنى التقليدية فيها، وخلقت وضعاً جديداً وبخاصة بعد انسحابها وبداية حقبة ما بعد الكولونيالية. هذه الحقبة، التي عرفت كذلك بحقبة تصفية الاستعمار، لم تخل هي أيضاً من توترات ونزاعات قاتلة، منها ما هو باق من الحقبة الكولونيالية (القضية الفلسطينية والنزاعات الحدودية مثل النزاع بين الهند وباكستان في آسيا) ومنها ما هو وليد فترة تصفية الاستعمار.

لم تختف النزعة الاستعمارية القديمة من العقل السياسي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بل ظلت حاضرة في شكل قوة عسكرية جبارة تراقب العالم وتتحكم فيه عن طريق أساطيل وحاملات طائرات وقواعد عسكرية منتشرة في المحيطات وتدخلات عسكرية تحت غطاء الشرعية الدولية حيناً وخارج هذه الشرعية أحياناً، ومن خلال انقلابات تقودها هذه القوى الاستعمارية حفاظاً على مصالحها الحيوية مثل الانقلابات التي نفذت في أمريكا الجنوبية أو في أفريقيا بمساندة من قوى رأسمالية عملت على تأبيد هيمنتها على العالم خصوصاً بعد سقوط القطب الشيوعي الذي كان رغم كل عيوبه قوة تعديل.
لقد عرف العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي هيمنة مطلقة للقطب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة التي فرضت الأمر الواقع بالحديد والنار خصوصاً في القارة الآسيوية، في العراق وأفغانستان، تحت شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ورافقتها إيديولوجيا نهاية التاريخ التي نشرها فرانسيس فوكوياما حيث أصبح المنوال الأمريكي الليبرالي الديمقراطي هو المنوال النهائي الذي يجب أن يسود العالم كله عن طريق فرضه بالقوة إن اقتضى الأمر.
الوضع الآسيوي: المخاطر
نشير في البدء إلى أن آسيا كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين هي قارة كل المتناقضات فهي تحتوي على مظاهر تفاوت فاحشة. ستنتج هذه القارة التي يسكنها قرابة خمسة من ثمانية مليارات من البشر أكثر من 40 % من الناتج العالمي الخام سنة 2025 وسيكون لها رصيد مالي واستثماري ضخم في الخارج. أما من وجهة نظر إيكولوجية/ بيئية فقد تأكد خلال قمة كوبنهاغن 2009 أنه لا شيء يمكن أن يحصل في مسألة تغير المناخ بدون تعاون العملاقين الصاعدين في آسيا (الصين والهند) المتمسكين بحقهما في التنمية بقوة، لكن الجسم الآسيوي المترامي الأطراف تخترقه توترات كثيرة وشروخ عديدة. وفيه تتوفر كل الأسباب التي دعت الناس تاريخياً للاحتراب والاقتتال، فالفوارق في الثروات تبدو هائلة في القارة الآسيوية، ليس فقط بين مختلف البلدان والدول (الدخل الفردي في سنغافورة أعلى 100 مرة من نظيره في أفقر بلدان المنطقة مثل كمبوديا وبيرمانيا) بل داخل البلد الواحد ففي آسيا يعيش 1/3 من السكان في حالة فقر، ونحن نعرف جيداً كيف يمكن للتنوع الإثني أن يدفع الجماعات البشرية إلى الاقتتال ومن هذه الناحية تبدو آسيا فسيفساء لا نظير لها.
باستثناء كوريا واليابان تبدو كل البلدان الآسيوية الأخرى متعددة الإثنيات، وتضم بعضها أكثر 50 إثنية كبيرة العدد أو صغيرة على غرار بيرمانيا. ومن المعلوم أنه قد كان للتنوع الديني والاختلاف في رؤى العالم دائماً قسط مهم في الصراعات التي اندلعت عبر التاريخ، و آسيا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي تتعايش فيه جنباً إلى جنب أهم الأديان وأنظمة التفكير الموجودة في العالم: الإسلام والبوذية والكونفيشيوسية والمسيحية وصولاً إلى الإحيائيات المختلفة إضافة إلى خصوصية أخرى هي وجود (أديان وطنية) مثل الهندوسية والشنتو في اليابان، دون أن ننسى ما بقي من الشيوعية العالمية التي كانت من أكثر أنظمة التفكير إثارة للحروب في القارة الآسيوية في القرن الماضي (الثورة الصينية/ الحرب الكورية/ حرب فيتنام).
تبدو الأنظمة السياسية في آسيا، هي كذلك، متنوعة تنوعاً ينذر بخطر اندلاع نزاعات دموية مثلما حدث في السابق. نجد في هذه القارة كل الأنظمة السياسية المعروفة مثل الديمقراطيات البرلمانية (الهند/ اليابان) والرئاسية (كوريا الجنوبية/ تايوان) مثلما توجد أنظمة فوضوية (تايلند/ الفلبين) وأنظمة دكتاتورية عسكرية(بيرمانيا) أو ستالينية (كوريا الشمالية) وأنظمة الحزب الواحد الشيوعي (الصين وفيتنام). إن مثل هذا التعايش شديد الخطورة لأن اختلاف الأنظمة السياسية يحمل في طياته اختلافاً في رؤى العالم قد يؤول إلى اختلاف في تحديد المصالح ذات الأولية لكل نظام من هذه النظمة وإلى خلاف حول الطرق الشرعية للدفاع عن تلك المصالح ولعل أبرز مثال على ذلك هو المثال الكوري الشمالي حيث إن الأولوية في هذه البلاد هي لبقاء النظام والدفاع عنه والاستعداد لاستعمال كل الوسائل لبلوغ ذلك بما في ذلك ترك السكان يموتون جوعاً.
تبدو آسيا حسب هذه الصورة قارة غير موحدة وغير آمنة، ولا نجد فيها ما يشبه الاتحاد الأوروبي، بل لا نجد فيها ما يضاهي الاتحاد الأفريقي رغم أنها تضم أكثر من خمسة بلدان نووية إضافة إلى بلدان أخرى ساعية لامتلاك سلاحها النووي مثل إيران واليابان القادرة تقنياً على تصنيع سلاحها النووي في مدة وجيزة.
لكن رغم كل هذا يبقى الأمل معقوداً على بعض الأقطاب الآسيوية الكبرى الصاعدة لتعديل المشهد الكوني الذي هيمن عليه القطب الرأسمالي الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة، وتبدو الصين في هذا السياق هي القوة الصاعدة التي يتوقع أن تحتل الصدارة عالمياً متخطية الولايات المتحدة.
هل تصلح الصين بديلاً عن الغرب؟
يتردد هذا السؤال عند الكثير من المهتمين بالبحوث في هذا المجال ولعل أهم سؤال يتردد عندهم هو أليست الصين هي كذلك إمبريالية توسعية تتمدد كأخطبوط في العالم مستغلة خيرات بلدان ضعيفة مثلما هو الحال في أفريقيا؟ ألا تجب الخشية من (التنين) الصيني؟
يرى بعض المختصين إجابة عن سؤال هل الصين دولة إمبريالية لا فرق بينها وبين الغرب وأن التقارب معها ليس سوى هروب من الرمضاء إلى النار، بأن الصين لا يمكن تصنيفها إمبريالية، فالمنوال الصيني مغاير للمنوال الغربي من جهة أن الدولة - الحزب في الصين هي التي تقود التنمية وتتحكم فيها، لذلك يتحدث الدارسون للصين عن رأسمالية الدولة بقيادة حزب لا يزال يحمل الأيديولوجيا الشيوعية ويتسمى بها.
إن قيادة الدولة للتنمية الاقتصادية في آسيا ليس غريباً فهذا ما حدث في الهند وفي كوريا الجنوبية. بداية من السنوات 1980 وتحت قيادة دينغ سياوبينغ بدأت الصين في التوسع عالمياً بطريقة محتشمة، وتحول هذا التوسع ليصبح توسعاً قوياً مع شي جينبنغ. لقد أتقنت الصين استغلال النظام العالمي النيولبيرالي بنجاح كبير. يذهب القائلون بأن السياسة الصينية الدولية الحالية لا يمكن أن تغدو سياسة إمبريالية إلا أن الصين مازالت تواصل السير في خط ثورة 1949 الشيوعية، لكن هذا التواصل هو مجرد تواصل بالاسم: الجمهورية الشعبية والحزب الشيوعي، لكن الانقطاع عن هذا الموروث الثوري الاجتماعي يبدو أهم من الاستمرارية. لقد مر النظام الماوي بأزمات وبخاصة خلال فترة ما عرف بالثورة الثقافية، ولقد تمكن الجناح الذي يقوده دنغ سياوبينغ من السيطرة على الصين بداية من السنوات الثمانين من القرن الماضي فحصل تحول رأسمالي متسارع في الصين. لكن الصين رغم أنها قد تحولت إلى قوة رأسمالية كبيرة، ورغم أن الرأسمالية الكبرى لا يمكن إلا أن تكون إمبريالية، لأن الإمبريالية كما هو معلوم أعلى مراحل الرأسمالية كما يقول لينين، فإنها تظل في سياستها الخارجية مختلفة عن الإمبريالية الأمريكية، فهي لا تمتلك -إلى حد الآن- أساطيل تجوب المحيطات وحاملات طائرات تراقب النظام العالمي وتحافظ عليه بالقوة، ولا تتدخل لمؤازرة أنظمة سياسية والقيام بانقلابات كما ظلت تفعل الولايات المتحدة في مختلف بقاع العالم. ومن هذه الناحية تبدو الرأسمالية الصينية رأسمالية ناعمة إن جاز القول وهو ما يدفع الكثيرين خصوصاً في البلاد العربية التي عانت كثيراً من التدخل الغربي إلى تفضيل التعامل مع هذا القطب الصاعد الذي يمكن أن يحدث تعديلاً في المشهد العالمي ويعيد صياغته ليحد من غلواء الغرب الذي ظن أن التاريخ انتهى وأنه لا بديل عن النموذج الأمريكي.

ذو صلة