مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

حرب المبادرات والشراكات تجتاح آسيا

ما يحدث هذه الأيام في مسرح العلاقات الدولية في قارة آسيا، يذكّر المراقبين بما حدث بهذا المسرح في المرحلة الثالثة (1953م -1957م) من الحرب الباردة القديمة، حيث استمرت السياسات الأمريكية المعادية للاتحاد السوفيتي، فوقعت عدة اتفاقيات لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، الأولى اتفاقية منظمة جنوب شرق آسيا (South East Asian Treaty Organization - SEATO)، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتقوية نفوذها في الشرق الأوسط، وذلك بنقل مذهب ترومان إلى الشرق الأوسط.
واستطاعت أن تنشئ عدداً من القواعد العسكرية، ودخلت في اتفاقيات دفاعية مع 43 دولة، وفي هذه المرحلة اندلعت الحرب الأمريكية الكورية، ووصلت الحرب الباردة ذروتها. من ناحية أخرى خلال هذه المرحلة لم تفتر همة الاتحاد السوفيتي، ولم تلن عزيمته، حيث أنشأ حلف وارسو لمقابلة حلف الناتو، ودخل في اتفاقيات مع 12 دولة، وعرفت أيضاً هذه الفترة بتقسيم بوتسدام (Potsdam) لألمانيا، ورغم ذلك بدأت بوادر لبعض المفاوضات مهدت لمرحلة جديدة تميزت بالتفاهم، وبدأت العلامات الأولى للانفراج (الوفاق) في العلاقات الدولية تظهر للوجود، وعقد اجتماع قمة في جنيف (Geneva) في 1955م بين العملاقين.

في التاريخ القريب بدأت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال السنوات الأخيرة تدرك وتعترف بالأهمية الاقتصادية المتزايدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وبالتحديات الأمنية التي من المحتمل أن تواجهها الولايات المتحدة مستقبلاً في هذه المنطقة، وهو ما يعكس توجهاً أمريكياً عرف في البداية بمسمى (محور الارتكاز الآسيوي - Pivot to Asia)، ثم أصبح يسمى لاحقاً (إعادة التوازن - Rebalance)، وتقوم نقطة ارتكازه على دعم الروابط الدبلوماسية، والعلاقات التجارية، وكذلك الأمنية للولايات المتحدة مع منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
في نوفمبر 2011م، كتبت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية حينذاك، مقالاً في دورية (السياسة الخارجية)، كان بمنزلة أول إعلان رسمي من إدارة أوباما عن تحول سياساتها نحو آسيا، إذ اعتبرت كلينتون أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ أصبحت المحرك الرئيس للسياسة العالمية، مشيرةً إلى ستة محاور أساسية ستمضي من خلالها واشنطن قُدماً في التعامل مع هذه المنطقة، وهي: (تعزيز التحالفات الأمنية الثنائية، وتعميق العلاقات مع القوى الناشئة بما في ذلك الصين، والتعامل مع المؤسسات الإقليمية متعددة الأطراف، وزيادة التجارة والاستثمارات، وتوسيع الوجود العسكري على نطاق واسع، ودعم الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان).
مثلت هذه المبادئ إطاراً لنظرية (إعادة التوازن في آسيا). وهذا النهج الجديد للشراكة الإقليمية يمثل حجر الزاوية في إعادة صياغة سياسية الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يتطلب من الإدارة الأمريكية توجيه المزيد من الوقت والطاقة والمال إلى آسيا. ودبلوماسياً، طرحت إدارة أوباما مبادرات لإعادة التوازن في علاقاتها مع الحلفاء الإقليميين في آسيا على أساس مجموعة متنوعة من المصالح الاقتصادية والثقافية والعسكرية المشتركة، على نحو يؤدي إلى زيادة التعاون مع هذه الدول والحفاظ على استقرارها وحل النزاعات فيما بينها بشكل سلمي وبالطرق الدبلوماسية.
في سبيل تحقيق الأهداف الدبلوماسية الجديدة، انتهجت إدارة أوباما ما أطلقت عليه هيلاري كلينتون دبلوماسية (الانتشار إلى الأمام)، والتي تعتمد على استخدام جميع الأدوات الدبلوماسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد بذلت الولايات المتحدة جهوداً مضنية في سبيل تنفيذ هذه الدبلوماسية الجديدة، فبعد شهر واحد فقط من إرساء أسسها، زارت كلينتون كوريا الجنوبية وبورما، وحضرت مؤتمر الأعمال والاستثمار لتجمع دول جنوب شرق آسيا (آسيان - ASEAN). وتمثل اتفاقية شراكة المحيط الهادي، أو الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (Trans-Pacific Partnership - TPP)؛ جوهر السياسة الاقتصادية لإعادة التوازن، فحال تنفيذ هذه الشراكة بين إحدى عشرة دولة في آسيا والمحيط الهادئ؛ سوف تقل الحواجز أمام التجارة والاستثمار، وتزيد الصادرات، وتتوافر المزيد من فرص العمل. وإلى جانب هذه الاتفاقية، ثمة مبادرات اقتصادية أخرى لإعادة التوازن، منها اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية التي وقعت في مارس 2012م.
الولايات المتحدة ليست لديها إستراتيجية لإدارة الصراع مع الصين، فما لدى واشنطن لمواجهة مثل هذا الصراع هو فقط مجموعة من الأفكار المعروفة باسم (معركة الجو والبحر - ASB Air-Sea Battle)، وهذا المفهوم ترسخ في وزارة الدفاع الأمريكية مع حديث إدارة أوباما حول إعادة نشر القوات من الشرق الأوسط إلى آسيا. ومع ذلك فإن طموحات بكين للهيمنة الإقليمية، وتقوية قواتها المسلحة بشكل متزايد، ومحاولتها منع وصول القوات الأمريكية إلى غرب المحيط الهادئ، فضلاً عن نزاعاتها مع دول تعد حليفة لواشنطن مثل الهند واليابان؛ كلها مؤشرات توحي بوجود صعوبات كبيرة أمام مستقبل العلاقات بين واشنطن وبكين، وأن تحديات الصين لسياسة الغموض الإستراتيجي، والرأسمالية الليبرالية، وحقوق الإنسان؛ يزيد من احتمالات الصراع بين الدولتين، ومحاولات موسكو استعادة وضعها السابق من خلال انتهاك القانون الدولي، وأعظمها ما حدث من روسيا في أوكرانيا، فهو بمنزلة جرس إنذار.
ولا ريب في أن يلجأ حلفاء واشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى رفع ميزانيات الدفاع عندهم. وحثت الولايات المتحدة حلفاءها في آسيا -مثل اليابان (الإستراتيجية الدفاعية الجديدة لليابان) وأستراليا والفلبين وكوريا الجنوبية وفيتنام وتايلاند- لزيادة إنفاقها الدفاعي وتطوير قدراتها العسكرية، بسبب القلاقل والمخاوف الأمنية المثارة لدى هذه الدول في ظل النزاعات الحدودية مع الصين في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي. وهكذا فإن فعالية سياسة (إعادة التوازن) للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تتطلب الاعتماد على كل من القوتين الناعمة والصلبة (العسكرية) معاً وبشكل متساوٍ. والقدرة التنافسية العالمية مرتبطة بشكل مباشر بتسيد الذكاء الاصطناعي.
دشن الرئيس الأمريكي جو بايدن شراكة اقتصادية في آسيا والمحيط الهادئ (23‏/ 05‏/ 2022م)، تتضمن 13 دولة، وسط جهود لتعزيز التجارة البينية بين الأعضاء الجدد للشراكة. والشراكة الجديدة تمثل برنامجاً لربط دول المنطقة بشكل أوثق، من خلال معايير مشتركة في مجالات تشمل مرونة سلاسل التوريد والطاقة النظيفة والبنية التحتية والتجارة الرقمية. وبحسب مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي من العاصمة اليابانية طوكيو، قال إن الولايات المتحدة واليابان ستطلقان مع 11 دولة أخرى (الإطار الاقتصادي من أجل الرخاء)، ولم يذكر بايدن ما هي الدول التي وقعت بالفعل على اتفاقية الشراكة الاقتصادية، والتي يعتبرها البيت الأبيض إطاراً لما سيصبح في النهاية مجموعة متماسكة من الدول التجارية. إلا أن التقديرات تشير إلى وقوع الصين خارج ذلك التكتل الجديد.
الآثار المترتبة على السياسات الأمريكية غير الموفقة هي من أسباب حرب المبادرات والشراكات التي تجتاح آسيا، فقد اعتبر وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو أن التقارب السعودي الصيني هو نتيجة مباشرة لما وصفها بـ(سياسة أمريكية سيئة)، منتقداً تعامل إدارة الرئيس جو بايدن مع حلفاء الولايات المتحدة. ورأى بومبيو أن إدارة بايدن عندما جاءت إلى البيت الأبيض (كانت ناعمة مع الصين)، بينما توعد بايدن المملكة العربية السعودية بأن يجعلها (دولة منبوذة). وتؤكد المقارنة بين الحفاوة التي حظي بها الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته إلى السعودية، وبالمقابل الاستقبال المتواضع الذي لقيه الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ فذلك ثمرة للعناد الأمريكي مع دول الخليج والذي لا يخدم سوى خطط تمدد الصين في الشرق الأوسط.
المنطقة العربية سوق (فقط) للبضائع الصينية، ولا يزال البعدان السياسي والثقافي غير حاضرين بشكل ملموس. اشترى الخليج أمنه بصفقات أسلحة وتوفير قواعد عسكرية ودفع بالاستثمارات إلى أسواق الغرب، والتفاهم المستمر بخصوص حجم الإنتاج النفطي وأسعار الطاقة، لكن السنوات العشر الأخيرة غيرت وضع العالم، فزاد خيارات دول الخليج في التقليل من الاعتماد شبه المطلق على الغرب، وهناك مفاعلات نووية الآن تنتج الطاقة في الخليج من صنع كوريا الجنوبية، والتكنولوجيا الصينية للمسيّرات تسللت إلى مصانع السلاح في المنطقة، والشركات الصينية والهندية والكورية تنافس على الاستكشاف النفطي والصناعة النفطية، هذه السنوات العشر أحدثت التحولات السياسية، وتبدلت الأحداث أيضاً.
الآن تشهد آسيا مرحلة التحولات السياسية الكبرى، وقد فشل مسعى التشهير بالسعودية حين وجد بايدن نفسه مجبراً على الذهاب إلى المملكة يطلب مرونة الإنتاج النفطي في مواجهة تحدي روسيا. ولم تكتف السعودية بالإصرار على عدم التجاوب مع الضغوط الأمريكية بخصوص إنتاج أوبك+، بل عمدت خطوبة الصين بديلاً إستراتيجياً عن الولايات المتحدة، وعزز ذلك بالقمم السعودية والخليجية والعربية، وبحضور الرئيس الصيني. ويحدث هذا في الوقت الذي أعلنت فيه أمريكا أن الصين هي التحدي الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة، هذه التحولات أكبر وأبعد تأثيراً من تعزيز العلاقات الاقتصادية مع قوة عالمية منافسة للولايات المتحدة. الوضع العالمي والدولي الراهن: آسيا مستمرة في التحولات عبر حرب المبادرات والشراكات التي تجتاحها، وصاحب النفس الأطول هو الذي يتوج بالفوز.

ذو صلة