مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

المستقبل آسيوي أو أسينة العالم

خــــــلال العقود القليــــلة الماضية ونتيجةً للتحولات الدولية الكبيرة في أهميتها وحجمهــــــا وتأثيراتهــــــا الكميــــة والنوعية، وما نتج عنهـا مـن تغيرات هيكلية في موازين الإستراتيجيات العالمية/ العولميـة؛ اهتمـت كثيـــــر مــــن مراكــــــــز التفكير والبحوث الإستراتيجية باستشراف التوجهــــــات المستقبليـــــة لمراكـــــز الثقــــل والتأثير، وقد ترافق هذا الاهتمام مع تطورات مهمة في منهجيات الدراسات المستقبليـــــــة موظفـــــةً نمـــــاذج بحثيــــــة وعمليـــــة وتقنيــــــة متكاملة في الرصد والقراءة والتحليل والاستشراف والتنبؤ. وتكاد تجمع هذه الدراسات الإستراتيجية في تصوراتهـــــــا لسيناريوهات المستقبل على أن العاـم يشهد تحـولاً كبيراً من نظام القطب الأحادي إلى نظام متعــــــدد القطبيـة؛ تتـوزع فيه عناصر النفـوذ والقــوة والسيطـــــرة والتأثير على مجموعة من الأقطاب أو القوى والتكتلات المتعددة والمتنوعة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

هذا من حيث الشكل العام، أما في المضمون والخلاصات لتلك الرؤى الإستراتيجية فبوصلتها تشير إلى صعود متنام ولافت للنموذج الآسيوي وتأثيره في التوازنات الدولية، حتى صرنا نقرأ أطروحات تتحدث عن (القرن الآسيوي) و(العصر الآسيوي)؛ بل إن الباحث في السياسات الدولية والإستراتيجية باراج خانا أنجز أطروحة حديثة بعنوان ذي نبرة حاسمة، وهي (المستقبل آسيوي: التجارة، والصراع، والثقافة في القرن الحادي والعشرين)، وفيها يقدم قراءة تحليلية استشرافية تتأسس على مجموعة من العوامل المهمة والمؤثرة اقتصادياً وسياسياً وديموغرافياً واجتماعياً وثقافياً؛ فعلى سبيل المثال: 50 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي آسيوي، وثلثا النمو الاقتصادي العالمي آسيوي، كما أن 60 % من سكان العالم في آسيا (10 أضعاف أمريكا)، وتستحوذ على 40 % من الاستهلاك العالمي، مع تنام واضح للطبقة الوسطى، وقوة شرائية ترتفع باطراد. ويجادل باراج أن هذا المستقبل الآسيوي ليس منبتاً عن سياقه الحضاري، بل إنه يعتمد على خمسة عقود من النجاح والنمو المضطرد، وتنتقل فيها الثروة من جيل إلى آخر؛ مضافاً إلى ذلك ما تزخر به آسيا من تنوع ديني وإثني ولغوي وثقافي عميق وثري. أما على المستوى الجيوبوليتكي وتعقيداته وانتقالاته الحرجة -وفقاً لمصطلحات الصافي سعيد-؛ فيمكن الإشارة إلى أن عمق روسيا عمق آسيوي، وبخاصة ما يتعلق بحجم الاستثمارات بين روسيا وآسيا، وعلى وجه أخص الصين.
ولعل مما يدعم مقولة (المستقبل الآسيوي) أن هذه القارة الواسعة والمتنوعة تضم مجموعة من التكتلات أو مجموعات الدول ذات الخصائص المشتركة والمواصفات المتشابهة التي تتكامل وتتعاون فيما بينها لتشكل هذا المستقبل؛ فهناك مجموعة الدول الثلاث المؤثرة (الصين والهند واليابان)، وهناك مجموعة ما يعرف بنمور آسيا (كوريا الجنوبية، وسنغافورة، ماليزيا، وتايلند، وهونكونغ...)، وهناك مجموعة دول الخليج العربي الست بنموذجها المؤثر والفاعل على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية؛ حيث يشهد العالم العربي والآسيوي ما يمكن تسميته بـ(لحظة الخليج العربي)، وفقاً لكتاب ومقولة الكاتب الإماراتي الدكتور عبدالخالق عبدالله. وفي هذا السياق تحضر الرؤى الإستراتيجية التي تتبناها بعض دول الخليج، وفي مقدمتها رؤية السعودية 2030 باعتبارها رؤية إستراتيجية تنموية طموحة تراهن على مقومات الحاضر ومكتسبات المجتمع والدولة لتتجه نحو المستقبل؛ موظفة ثقلها السياسي والاقتصادي والتنموي في بناء شبكة من العلاقات الدولية والتحالفات والاتفاقيات والمبادرات الإستراتيجية، ولعل من أبلغ الأمثلة على ذلك ما شهدته المملكة في شهر ديسمبر 2022 من قمم سعودية صينية وخليجية وعربية، وهي تأتي كحلقة متصلة في سياق تنويع التحالفات وتطويرها؛ حيث سُبقت بزيارات مهمة لولي العهد، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان لعدد من الدول وتوقيع جملة من الاتفاقيات التنموية المتنوعة في الصناعة والتقنية والاقتصاد، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايلند والصين... وغيرها.
واضح أن الفقرات السابقة تقدم سيناريوهات مستقبلية مفعمة بالأمل والحيوية والإيجابية، ولكنها مثل أي رؤية إستراتيجية مستقبلية تتضمن عدداً من التحديات والمخاطر موضوعياً وواقعياً وسياسياً؛ منها مثلاً ما يشير إليه بعض المحللين الإستراتيجيين من أن هذه (القوة الاقتصادية) الآسيوية تحتاج إلى أن تتحول إلى (قوة سياسية)، وهناك مصالح وحسابات إستراتيجية قد تعوق هذا التحول (مثلاً الهند واليابان أقرب للفلك الأمريكي منه للصيني)، فضلاً عن الخلافات والتوترات الحدودية بين بعض الدول (الهند والصين، اليابان والصين، كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية بترسانتها النووية، الهند وباكستان، بل حتى التوترات الكامنة بين الصين وروسيا، واليابان وكوريا الجنوبية)، مضافاً إلى كل ذلك اختلافات النظم السياسية وقيمها.
ويرى آخرون أن هذه التحديات والمخاطر جزء من أي عملية أو تحالفات سياسية واقتصادية في كل زمان ومكان، وأنها داخلة ضمن آليات القصور الذاتي لأي مشروع، ويجادلون بأنه يمكن التعامل معها والتخفيف من حدتها وتأثيرها عبر إستراتيجيات إدارة الاختلافات، وتغليب منطق المصلحة، وتفعيل مبادئ التعاون والتكامل التنموي والإستراتيجي، والبناء على المشتركات والقواسم الجامعة بين الدول. وهذا موضوع يطول النقاش فيه، ولعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

ذو صلة