مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

المقابر والتحنيط في حضارة اليمن القديم

إن لكل مجتمع من المجتمعات عادة تنشأ لسبب ما، وفي الغالب يكون لها ارتباط عقائدي وديني ومن ثم تحكمها عادات وتقاليد تتحول وتتغير تغيرات طفيفة مع الزمن إذا لزم الأمر، وربما تبقى محتفظة بطقوسها في حال وجود تماسك وتكاتف وتعاون وتفاهم لأهل الحل والعقد في المجتمع، وهذا يحدث في المجتمعات المنغلقة على نفسها والمنعزلة عن المجتمعات الأخرى، فتتوارث فيها الأجيال تلك العادات بحرص ولا يظهر التغيير إلا نادراً بحيث لا يمكن قياسه إلا بعد مضي وقت طويل، ولا يختص أمر التحول أو التغير بعادات الموت ودفن الأموات فحسب، بل ينطبق على معظم العادات كالزواج والولادة والصيد والزراعة, وكذلك تأثر اللغة وطريقة نطق الحروف في كل منطقة.. 
وقد تناولت الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية جوانب كثيرة من هذه العادات والسلوكيات التي مارسها البشر في مناطق متعددة من المعمورة، وكان للدراسات الأنثروبولوجية وعلم الآثار نصيب وافر من تلك الدراسات وتحليل الكثير من سرائرها الغامضة وتتبع أصولها وبحث تطوراتها ونتائجها على المجتمعات وتأثيرها على الحياة المستقبلية، فكانت الحصيلة غاية في الأهمية من الناحية العلمية, مشوقة ولذيذة لمن يعشق المغامرات والاكتشافات والمفاجآت المثيرة.
 وفي المجتمع اليمني القديم كانت ثمة عادات لها بعض الخصوصيات التي نشأت هي الأخرى عن الخصوصية المكانية، ففي العصور القديمة ومنذ نشأة الخليقة كان للميت حرمة وقدسية عظيمة في كل بقاع الأرض، هذا ما استقيناه من معلومات مؤكدة روتها اللقى الأثرية التي خلفها إنسان العصور القديمة وهو يفخر بتخليد أمواته وتشييد مقابرهم والاعتناء بها بقدر يفوق العناية بالإنسان الحي. وقد جاء ذلك من صميم إيمانه القوي بوجود الخالق الذي يتحكم في هذا الكون العظيم وهو يعلم بصدق أيضاً بأنه زائل بعد حين من الدهر مثل صاحبه الميت الذي سبقه، ولذلك فقد أدرك بأن ثمة حياة أخرى سيذهب إليها بعد موته (وهو ما أسمته التواريخ عقيدة البعث والخلود)، فهو على ضوء ذلك يفعل ويتصرف بحكمة وبسخاء تجاه أخيه الميت أملاً بأن يلقى مثل ذلك عندما يحين دوره.
أنواع المدافن والمقابر القديمة
 لقد تعددت أنواع وأشكال المقابر تبعاً للفترات التاريخية أولاً وطبوغرافية المواقع ثانياً وأهمية الأشخاص أنفسهم ثالثاً، وارتبط بهذا التنوع أيضاً طرق الدفن أو الحفظ أو التحنيط أو الوضعيات التي تترك عليها جثة المتوفى في موقع المقبرة ، وأنواع المقابر في اليمن القديم هي :
- المقابر المبنية بالحجارة على هيئة أبراج عالية إلا أنها أقل ارتفاعاً من مقابر يايلة في عُمَان ومن أمثلتها وأحسن نماذجها في منطقة الرُّيك وجدرين في مأرب ومقابر منطقة العبر في الجهة الغربية لوادي حضرموت ومقابر وادي وعشة في الجول الشمالي (الهضبة الشمالية) لوادي حضرموت وأعلى الجول الفاصل بين واديي دوعَن وعَمْد.
- المقابر الركامية نظراً لكونها عبارة عن ركام حجري يوضع على الجثة ولكن بحجارة غير منتظمة في هيئتها ويتخذ فيها القبر عادة الشكل الدائري وقد توجد بداخل الركام غرفة للدفن تبنى بألواح حجرية بشكل مربع في الغالب، أما الركام فلا يرتفع كثيراً وربما لا يزيد عن 1.5متر، أما إذا تم البناء بألواح حجرية فتغطى قمته بقطعة حجرية كبيرة أو لوح من حجر (الصلل)، وهذا النوع أكثر انتشاراً في قمم الجبال والهضاب الجبلية، وقد يكون متصلاً بذيل طويل ربما يصل إلى أكثر من كيلو متر، وقد يكون الذيل عبارة كومات متجاورة في شكل صف ممتد طويل، وقد يكون القبر في الأسفل والذيل يمتد إلى الأعلى، وله أشكال متعددة وأساليبه متنوعة، وربما اختلط الأمر بينه وبين علامات الطرق وبين الحدود بين الأراضي وبينه وبين موجهات مياه السيول والأمطار. 
- المقابر من النوع الأرضي ويتخذ الشكل البيضاوي أو المستطيل دائري الأطراف, وينتشر هذا النمط بكثرة, ومنه نماذج مقابر جزيرة سقطرى والتي كشفت عنها البعثة الروسية على عمق نحو مترين تحت سطح التربة وقد بُنيت بحجارة ملساء طبيعية كبيرة الحجم ومتوسطة من غير تشذيب.
- المقابر التي تشبه الصندوق أو التابوت الحجري, ويتم صنعه من شرائح حجرية ضخمة قد يصل طول الواحدة منها إلى نحو المتر والنصف, ومن أمثلته مقبرة شعوب بصنعاء القديمة، وظهر هذا النوع أيضاً في العصر البرونزي ومن أمثلته الكثير في وادي وعشة بالهضبة الشمالية لحضرموت.
- المقابر الدائرية وهي متعددة الأشكال أيضاً وقد تكون كبيرة القطر بحيث يصل قطرها إلى أكثر من خمسة أمتار, وهي من حجارة كبيرة جداً تشبه المقابر الميغاليثة في أوروبا ومن أمثلتها في وادي حضرموت مقابر وادي سر، وهي تختلف من حيث شكلها عن مقابر هيلي وأم النار المعروفة في الإمارات العربية المتحدة ومقابر بات في عُمَان. 
- المقابر الصخرية وفيها يختلف الوضع عن المقابر الأرضية، ونماذج هذه المقابر كثيرة في اليمن بشكل عام فنجد مقابر شبام كوكبان وشبام الغراس والحدا وناعط والظفير في بني مطر وصيح بني مطر وظفار منكث ووادي ضهر في المناطق الشمالية من اليمن وفي وادي ضراء بشبوة العاصمة الحضرمية القديمة وفي حريضة والمشهد وريبون والسفيل بوادي العين وشعب الغبيرة ومنطقة سنا في أسفل وادي حضرموت، هذه المقابر الصخرية تم نقرها نقراً متقناً في ثنايا الجبال وعلى ارتفاعات عالية في الغالب بحيث تكون صعبة المنال بعد وضع الجثة فيها، وفي هذه المقابر من الداخل تم عمل رفوف مستطيلة بحجم الإنسان العادي حتى توضع عليها الجثة، وقد يكون في المقبرة عدد يصل إلى الخمسة أشخاص ولكن كل منهم مستقل بذاته وبأثاثه الخاص، وتسمى هذه بالمقابر العائلية. 
عقيدة ما بعد الموت 
 في اليمن القديم كذلك كانت هناك عقيدة لدى القدماء وإيمان بوجود حياة أخرى وخلود بعد الممات, ولذلك كان هناك تحنيط ومعالجة للجثة قبل أن تدفن وتوارى في التراب أو توضع في أرفف المقابر الصخرية على أساس أن يبقى الشكل العام للميت ليتم التعرف عليه عند عودة الروح إليه في قبره.  فقبل الإسلام بآلاف السنين ومنذ العصور الحجرية والعصور التي تلتها كالنحاسية والبرونزية والحديدي, وحتى العصور التي سبقت الإسلام؛ تم الدفن بطرق مختلفة الوضعيات، ومنها الوضع المنحني على هيئة القرفصاء وهي نفس العادة التي كانت لدى قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام وبعض مناطق أخرى، وهذه العادة دفن بها قدماء اليمنيين أيضاً خلال العصر التاريخي كما هو الحال في مقابر منطقة ريبون بوادي حضرموت ومقابر وادي ضراء في شبوة ومقابر العصيبية في أبين ومقابر موقع ثاج في السعودية، وهي مقابر أرضية تم دفن بعض الأثاث الجنائزي مع الميت مثل الحلي الذهبية والفضية والأسلحة كالسيوف والخناجر وأواني مُرصعة ومُطعمة بمواد نفيسة مثل الأحجار الكريمة والمُجوهرات، وعادة ما تكون هذه المواد في مقابر أثرياء القوم وقاداتهم العسكريين، أما مقابر عصور ماقبل التاريخ فعلى الرغم أن الكثير منها لم يتبق من الجثة إلا مايدل على وجود سابق للميت بهذا القبر نظراً لتحللها بشكل كبير فقد وجدت بجوارها بعض الأسلحة والأدوات المصنوعة من الصوان والأوبسيديان (الزجاج البركاني) ومن أمثلتها المقابر الركامية والمقابر المذيلة والمقابر البرجية أو ما يُطلق عليها (خلايا النحل) كتلك المنتشرة في الرويك وجدرين بمأرب ومنطقة العبر في حضرموت ووادي وعشة وما حوله في الهضبة الشمالية لوادي حضرموت وتنتشر بكثرة في عُمان ومناطق أخرى من شبه الجزيرة العربية.
المومياء المحنطة 
 كما هو معروف فقد شيد قدماء المصريين لموتاهم الأهرامات الضخمة في الجيزة والتي مازالت صامدة أمام كل المتغيرات والظروف المناخية خلال آلاف السنين، وشيد أهل شمال الجزيرة البتراء وفي السعودية مدائن صالح أيضاً, وهي المنحوتة في صميم الجبال الصخرية بعناية ودقة فائقتين، وكذلك فقد شيد بعض قدماء اليمنيين لموتاهم مثل هذه المقابر الواسعة الآمنة في المرتفعات الجبلية في ثنايا الصخور الرسوبية الجيرية الكبيرة وأحكموا إغلاقها بحجارة حتى لا تصلها الحيوانات أو تعبث بها أيادي العابثين، ومثل تلك المقابر وجدت في مناطق متعددة من اليمن، والأقرب أنها كانت منتشرة بشكل كبير لولا أن أيدي النبش والخراب قد طالتها في أزمان لاحقة وعبثت بمحتوياتها، فالبعض منها تحولت إلى مساكن للبدو والبعض منها تحولت الى زرائب للماشية وأخرى مستودعات ومخازن، وقد شاهدنا الكثير منها في مناطق من حضرموت في مواقع مثل حريضة في وادي عمد والمشهد في مدخل وادي دوعن والسوم في شرق وادي حضرموت، وذكرت المصادر أيضاً وجودها في سهوة بغرب حضرموت، كما شاهدنا أعظمها في مناطق من شمال اليمن في كل من شبام كوكبان وصِيح بني مطر وثُلأ شمال غرب صنعاء وتليها شبام الغِراس (شبام سُخيم) شمال صنعاء والمحويت أيضاً شمال غرب صنعاء، بالإضافة إلى مناطق كثيرة أخرى يصعب حصرها كما أن الكثير منها لم يُدرج بعد ضمن أعمال علمية منشورة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب؛ بل تم تحنيط الكثير من الجثث ولفها في كيس من الجلد مرة, ومرة أخرى تم لفها بشرائح من الكتان بطرق متقنة ومتينة, وذلك بعد أن تخضع للتجفيف بمواد طبيعية كان يتم استخراجها من النباتات غالباً الموجودة في البيئة الصحراوية، ومن بين أهم هذه النباتات كان يوضع نبات الراء، وهو نبات بري عبارة عن حبيبات أشبه بالقطنية له خاصية الامتصاص, إذ كان يتم وضعه بداخل التجويف البطني حتى يمتص السوائل لكي لا تتعفن الجثة. وهذه المعالجات الطبية تتم عادة بعد استئصال ما في البطن من أحشاء غير قابلة للحفظ لوقت طويل مثل الأمعاء وتوابعها، كما يعالج الرأس معالجة خاصة تحظى بالعناية المركزة والدقيقة بحيث كانت تبقى بعض خصلات من الشعر في بعض الجثث سليمة الى جانب بعض من الجلد أيضاً. 
 لقد وُجدت معظم هذه المُحنطات التي تسمى (المومياء) في وضعية القرفصاء المنحنية، كما وجدت بالمقابل جثث أخرى في وضعيات ممتدة، والبعض الآخر مقطوعة الرأس وبعض الرؤوس بجوار الجسد، ويعلل بعض العلماء اتخاذ وضعية القرفصاء على أساس أنها تشبه وضعية الجنين في بطن أمه، أي أن هذه العلاقة تشير إلى بداية حياة جديدة بالنسبة للميت كما هي بالنسبة للجنين الوليد، وهي في الوقت نفسه استبشار بديمومة الحياة بعد الموت والموت بعد الحياة وهكذا. أما بالنسبة للوضع والاتجاه العام للجثة بداخل المقبرة فكان غير محدد باتجاه معين بالنسبة للجثث في المقابر اليمنية القديمة كالذي نجده في المقابر المصرية القديمة مثلاً حيث يجب أن يتجه وجه الميت في جميع المقابر نحو غروب الشمس وماله من دلالات واعتقادات عند قدماء المصريين ذات صلة بعبادة الشمس وما يُسمى الإله رع وما إلى ذلك. 
المومياء في المتحف اليمني
كما شاهدنا وشاهد الكثير المومياوات المحنطة الفرعونية في المتاحف المصرية والمومياوات الأخرى في أفريقيا وفي مناطق أخرى من العالم فإن المتاحف اليمنية الرسمية تعرض بعض المومياوات المحنطة أيضاً والتي ربما لم يسمع الكثير عنها والتي تختلف حتى من حيث المعالجات التي اتبعت في التحنيط مقارنة بما تم في مصر وأفريقيا ومناطق أخرى.
 وهكذا يمكن أن نقترب أكثر من الفكر الإنساني القديم ونتعرف على المراحل التي تدرج خلالها لمعرفة أسرار الكون، وصلة الإنسان بخالقه والتصرفات التي على أساسها كان الإنسان القديم في مختلف العصور يبحث عن الحقيقة، وقد يكون استغرق الكثير من وقته للبحث عن الحقيقة.
والشواهد الحية من الجثث المحنطة الموجودة في قاعات ومخازن بعض المتاحف اليمنية مثل متحف قسم الآثار بجامعة صنعاء التي تعود تاريخ بعضها إلى حوالي 300 قبل الميلاد، أي الى نهاية العصر الحديدي، وتلك المومياوات التي توجد في متحف قسم الآثار بجامعة صنعاء تم إحضارها من كهوف مقابر شبام الغراس وأخرى من قبور منطقة ثُلأ وأخرى من منطقة ملحان، أما المومياء المحفوظة بالمتحف الوطني بصنعاء فقد أحضرت من مقبرة شُعوب ذات المقابر الصندوقية الشكل التي عثر عليها مدفونة على مسافة تحت أرضية المنطقة.
 صلات اليمن وبلاد الشرق 
 الحقيقة أنه بالرغم من بعض التباينات الطفيفة في عمليات الدفن أو التحنيط إلا أن ثمة تشابهاً كبيراً بين طرق وعادات الدفن في حضارة اليمن القديم مع دول الشرق القديم الأخرى المجاورة بشكل عام، وذلك ليس بغريب إذ هو نتاج التواصل الثقافي والعلاقات التي كانت سائدة بين تلك الدول، وقد ثبت التواصل بين اليمن ومصر، كما ثبت أن مصر كانت تستورد بعض المواد التي تستخدم في التحنيط، حيث كانت تجمعهما الصلات التجارية القوية مما عكس وفرض تلقائياً تقارب فكري وعقائدي، وبحكم الظروف المتقاربة التي في البدء كانت اقتصادية ثم اجتماعية وسياسية، وهكذا أصبحت في مجملها عناصر مهمة في الحياة اليومية، ومن ثم تحول الفكر إلى سلوك حي يُنتهج على مستويات اجتماعية وفئات المجتمع القبلي والعشائري بشكل عام وبطريقة تدريجية بعدما حضي بقبول وترحيب لم تفرضه القوة والجبروت، ولكن فرضه الاندماج الفكري والتفاهم والتلاقح بين الحضارت والإيمان بقضية مشتركة واحدة هي أن كل إنسان لابد له من الانتقال إلى حياة أخرى غير الحياة الدنيا الفانية ألا وهي الحياة الأخرى الباقية، ولذا كان في اعتقادهم بأنه يجب عليه أن يأخذ معه مستلزماته التي سيحتاجها في الحياة الأخرى كأدواته وبعض معداته الحربية بالإضافة إلى حليه وزينته، وقد تصل إلى إبله وماشيته، بل إلى حراسته وأهل بيته كزوجته وأولاده، ولما كان إيمانهم بهذه الحقيقة فقد كانوا يبنون عليها كل تصرفاتهم ويضعون عليها برامجهم، وهي عقيدة إيمانية راسخة بالنبسة لهم؛ يقاتلون ويدافعون ويقدمون قرابينهم ويفتدون ويتضرعون ويتوكلون على أساسها بغض النظر عن التوصل إلى الحقيقة المطلقة بالنسبة للذات الإلهية أو إيمانهم بالله العظيم.  

ذو صلة