كلاهما: (أي الموشح والشعبي) ينتميان لمسار واحد، غير أن اختلاف البناء وما لازم الموشح من صوت هو الفارق بينهما، كلاهما ينشدان الحديث عند الذات ومع الجمع، ويتميزان بالخروج عن الأعاريب في معظم أحوالهما خصوصاً الشعبي، أما الموشحة فتخرج عن الفصيحة في الأوزان المتعددة وفي القفلة العامية، على أنها قد قربت من الفصيح أيام لسان الدين بن الخطيب، بينما العامية أو الشعبية ملتزمة بمنهجها فشاعرها يطلقها على أهوائها لتعبر عن هوى خاص وموهبة ذاتية يزيد اشتعالها التعلق بالآخر وكذلك الحضور المصفق والمستمع جيداً، على أنها عامة، أما الموشحة فهي خاصة، تقال في مكان خاص ولأشخاص يتسمون بالخصوصية.
إنني هنا لا أوازن بينهما موازنة علمية قدر الحديث عن رؤى خاصة أملاها علينا الواقع وقراءته، وهو واقع أفادنا بتوقف الموشحة عند حد معين وكان رواده الأندلسيون، بينما الشعبية، مازالت ومنذ القدم إلى وقتنا الحاضر تمضي مع الإنسان ولإطلاقها بحرية ذاتية، غير آبهة بما تلتزم به الفصيحة، وإن كانت قد قربت من الفصيح في سبكها وقوتها، كقول الشاعر:
يقول من عدا على رأس عالي
رجم طويل يدهله كل قرناس
في رأس مرجوم عسير المنالي
تلعب به الأرياح من كل نسناس
النصّ السابق تحوّل إلى نص (مغنى) وهو تحوّل جعله يحفظ بغض النظر عن ألفاظه (عَدَّا، رأس عالي، رجم، يدهله، قرناس، مرجوم، نسناس، والأرياح) وهي ألفاظ تحتاج للبحث عنها في المعاجم خاصة (معجم الأماكن).
إن الشاعر في هذا النصّ قد جعل الشعبية تقرب من الفصحى في ألفاظها والتزامها بالأعاريب إلى درجة كبيرة شأن الموشحة التي أخذت تقرب من الفصيحة، مثلما نجد عند لسان الدين بن الخطيب، في موشحته المعروفة:
جادك الغيث، إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلُك إلّا حُلُما
في الكرى أو خلسة المختلس
ولو كان (الموشح) في الأندلس قد بدأ يمثل هذه الموشحة التي تخلو من الخرجة الأعجمية لاحتفى بها أولئك القوم، لكنها بدأت في بدايتها بطريقة غير طريقة القصيدة العربية من: (مطلع ودور وغصن وسمط وقفل وخرجة)، فلم يحتفِ بها الأندلسيون لأنها تخرج عن إطار العربية، واعتقدوا أنها قد تكون سبيلاً لإضعاف اللغة الفصيحة، ولذلك لم يدونوها في كتاباتهم للسبب أعلاه عدا صاحب (الذخيرة) الذي عرض لها في (ذخيرته) عرضاً بسيطاً، على أن المشارقة هم الذين قعّدوها واشترطوا لها شروطاً إلخ، ذلك مما نجده عند (ابن سناء الملك) المشرقي.
إن هذه الموشحة قد اشتهرت في المغرب وفي المشرق لدرجة أن عارضها الكثير، حتى (الشاعر الشعبي) عارضها، يقول أحدهم:
يا حمام من على السدره لعا
هيّض الاشواق وانا بمجلسي
جر صوته ثم جريته معا
واشتعل منا المحيط الأطلسي
للوليف اللي لمحبوبه رعى
ما يبي ذكر المحبه تفلسي
ان ذكرته قلت للي يسمعا:
(يا زمان الوصل في الأندلسي)
هذه الأبيات أبياتها خفيفة كخفة ألفاظ الموشح، وقد جاءت معبرة عما في النفس بطريقة ذاتية معبرة.
إن الشعر المغنى عندما يطلقه الشاعر سواء كان وشّاحاً أو غيره، إنما يطلقه ليعبر عن مكنوناته، والشعراء المجيدون حاولوا تقريبها من الفصيح بعد أن تمكن منهم الشعر، وتملكتهم الموهبة، وهذا الأمر قد دفع بالفصيح لقول مثل هذا اللون من الشعر الذي يقرب للأذواق، كقول الشاعر في ألفاظ سهلة بسيطة وصور متراكمة، مثلما نجد عند (ابن الساعاتي - 604هـ):
الطير تقرأ والغدير صحيفة
والريح تكتب، والغمامة تنقط
وقد عارضها (ابن الصائغ - 725هـ):
والطير تقرأ والنسيم مُردِّدُ
والغصن يرقص والغدير يصفق
وقبلها، قال (أبو العشائر الحمداني - 353هـ):
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي
والخيل من تحت الفوارس تنحطُ
لقرأت فيها ما تخط يد الوغى
والبيض تشكل، والأسنة تنقط
وبعدهما لسان الدين بن الخطيب:
والخيل خط، والمجال صحيفة
والسمر تنقط، والصوارم تشكل
وقد قال صالح بن عبدالقدوس:
المرء يجمع والزمان يفرق
ويظل يرقع والخطوب تمزق
إن اللفظ السهل البسيط غاية كل شاعر، وبالتالي، فقد حاول الوشّاح تقريبها من الفصيح، كما حاول الشعبي كذلك، أما من سعى في الفصيح، أو جمع بين اللونين (الفصيح والشعبي) أو (الفصيح والموشح كما هو عند ابن الخطيب)، فإن في ذلك مجالاً للحكم بأن الشعر يقرب بعضه من الآخر، فهو نتاج إنساني، يعبر عن الذات الإنسانية بصدق، ولذلك نجد أن (لوركا) قد قال: شيئان لا يموتان: الصدق والشعر.