مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الشعر الشعبي السوداني في بعده الزمكاني

توطئة:
أنا من أفريقيا
حرارتها الكبرى
وخط الاستواء
شحنتني بالحرارات الشموس
وشوتني كالقرابين
على نار المجوس
لفحتني
فأنا منها كعود الأبنوس
وأنا منجم كبريت شديد
الاشتعال
يتلظى كلما اشتم على بعد
تعال
أنا من أفريقيا جوعان
كالطفل الصغير
وأنا أهفو إلى تفاحة حمراء
من يقربها يصبح مذنب

لم أجد مفتتحاً أشمل مما احتوته أبيات الشاعر النحرير المرحوم صلاح أحمد إبراهيم التي تجسد بدقة متناهية شخصية الإنسان السوداني المحض في بعديه الزماني والمكاني اللذين شكلا الذات الشاعرة في بقاع السودان المختلفة، منذ البدايات الأول والتي تشير بعض الدراسات والأبحاث إلى انطلاقتها في تواريخ بعيدة تصل إلى القرن الثامن قبل الميلاد، مثل ما ورد في افتتاحية مسلة (بعانخي):
ها هو الرب العظيم
هاكمو.. ما فعلت
وعجز عنه الآخرون
أنا الملك في صلب الرب
آمون الخالق.. والخالق أبدا
سليل من عبده واتقاه الأعداء
ولعل هذه البدايات الفطرية، والتي خرجت ضربة لازب أو عفو الخاطر (كما نقول)، تعطي ملمحاً شاعرياً فطرياً يتطور بتطور الإنسان عند اتساع مداركه ومعارفه عبر التعليم والتعلم والثقافة والمثاقفة؛ يتضح أثرها جلياً واضحاً في الشعر الشعبي السوداني الذي تمثل في بداياته في المناحات (الرثاء) والفخر (بالشجاعة والكرم) والحماسة والمسادير (رحلة إلى دار المحبوبة).. وغيرها من الأغراض الشعرية التي أتت على السجية، ووافقت أغراض الشعر العربي إلى حد بعيد.
ولقد كان للشعر الشعبي المقاوم دوره الوطني الفاعل إبان الحقب الاستعمارية، فاضطلع بدور إلهاب الحماسة والحض على التكاتف والتعاضد ووحدة الكلمة لتحقيق الاستقلال والانعتاق، واشتهرت فيمن اشتهرن بمثل هذه اللونية الإبداعية (بت مكاوي)، وهي تقوم بتحريض الإمام المهدي للقيام بثورته:
طبل العز ضرب
هوينه في البرزه
غير طبل امبكان
أنا ما بشوف عزه
إن طـــــال الوبـــــر
واسيهو بالجزه
وإن مـــا عـــم نيـــل
مــا فرخــت وزه
الشعر الحلمنتيشي
وهو فن شعري ساخر يضع معالجات فكاهية لظواهر قد تكون اجتماعية أو سياسية أو خلافه، برز في جامعة الخرطوم في خواتيم سبعينات القرن الماضي، وأصبح له معجبون ومتابعون وهواة، وتأسست تبعاً لذلك هيئة حلمنتيش العليا برئاسة الدكتور الراحل أحمد محمد الأمين (المتجهجه الأممي)، ورئاسة فخرية للدكتور محمد عبدالله الريح (حساس محمد حساس)، وعضوية عدد من شعراء جامعة الخرطوم وغيرها ممن لقوا أنفسهم في مثل هذا الضرب من الشعر.
شعر الدوبيت والمسادير
كلمة مسدار مشتقة من الفعل (سدر) بمعنى ذهب أو ورد، كما تحتمل عدة معانٍ مرتبطة بالاشتقاق الذي ذكرناه، فالمسدار في وسط السودان (البطانة) تعني المورد أو المرعى الذي تقصده البهائم.
شكل شعر الدوبيت والمسادير الملمح الأوضح والأروع للشعر الشعبي السوداني، تضمخه وتحليه مفردة البداوة الممعنة في بداوتها المطربة عند سماعها، لتشمل بوادي السودان في جميع بقاعه شماله ووسطه شرقه وغربه وبادية كردفان الغرة. ولعل العرب القدماء كانوا قد جبلوا على إرسال صبيانهم للبوادي حتى تعذب ألسنتهم.
ولقد برز في تاريخ الشعر الشعبي السوداني ما يعرف عندنا بشعر المسادير الذي يصور رحلة إلى ديار المحبوبة، يقطع فيها الشاعر مئات الكيلومترات عبر راحلته من الإبل العربية الأصيلة، يبدؤها منذ تجهيز طعام الطريق، وإطعام الجمل أو ما تعارف عليه شعبياً بـ(العلوقة)، نظراً لأن الأكل كان يعلق للبهائم في رقابها، بحيث يكون تحت أفواهها، ثم يصف كل المعالم التي يمر بها والمتاعب والمصاعب التي تعترض طريقه، إلى أن يصل محبوبته فيتغزل في ترحابها وكرمها وملاحتها وجمالها وأنسها وغيره مما يعن له، ليخرج لنا لوحة بهية تسر القارئ وينتشي بها السامع. ولعلي أورد بعضاً من شعراء المسادير على سبيل المثال لا الحصر: كالحاردلو وود شوراني وود ضحوية من القدماء، ومن المعاصرين: الهمباتي الأغبش والمرحوم ود الخاوية، وصلاح ود مسيخ، وأحمد ود الأبيض، ونضال حسن الحاج، وود نجاع، وطارق اللبيب، والخنساء بت المك، وبشرى البطانة، ومحمد حسن ابنعوف.. وغيرهم ممن لا يتسع المقال والمجال لذكرهم.
شعر المسادير
نورد جزءاً من مسدار الشراد لأمير شعراء البطانة المتوج: عبدالله ود حمد ود شوراني:
أب تقزي الحكار امو الفحل مو فالتو
مربوط عده شهرينو ودخل في تالتو
الخلاني مجنون ليلى افوق فوق حالتو
سمحا مستحق تعب المغادر نالتو
منسول العنانيف الوبرتو نضيفة
قللو الشراب سيتلو العليقة خفيفة
الخلة البثلج عندو مني مخيفة
فاهما معتني وسمحا طبيعتو عفيفة
ياتيس رزمي المزرقن راعدو
خشبك دقو من ذورك جناحك باعدو
سيدك كان يتم املو وظروفو تساعدو
عازم بكرة حوا لام شديدة يواعدو
سهرانا مساقد وجفني مايقو لجوج
احسب في النجوم والعادي جنبي يسوج
جسم المنو لي جمر الكمين مفجوج
دهب برته وحرير نافشه وقطن محلوج
الشراد يناتل في الرباط حد ليلو
عارف النية سفرة وليها شامخ حيلو
الشاغل الفكر تاتاي مشي ووحيلو
ناير ونادي عالي علي الشباب اسكيلو
ارجيت الفجر ود عيني جافي منامو
صليت الوكت هام بي الشديد وقيامو
انا والمقدر البدأ بالهياج وزيامو
عابيين سفرة للنيلة السحابة وشامو
بعد الشاي وعمل القهوة للتلتاوي
قم شرعلو رسنو الفي ربطبتو بلاوي
الخلتني اهبر الشاية من الداوي
سدرا شاب وردفا للملابس طاوي
ود الحوري والرقاب منسل عايد
نوختو وبرك تيس الوحيش القايد
كان مايبقى يالشراد عبارك زايد
مشوارن بعيد دكك الطبايعو حمايد.
والمسدار طويل طويل لا يتسع المجال لذكره كاملاً.
الاتصال الرقمي وأثره على الشعر الشعبي
ولعل الشعر الشعبي قد تأثر (إيجاباً وسلباً) بالانفتاح الرقمي وسهولة التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأمكن من نشر وانتشار الشعر الشعبي عبر وسائط وتقنيات الصوت والصورة، لأن غالب طبيعة هذه اللونية من الشعر هي لونية سماعية لخطورة المفردة الشعبية غير المسموعة، وذلك لاختلاف وتباين الألسن واللهجات المحلية البدوية التي قد تختلف ويختلف معناها من منطقة إلى أخرى، فضلاً عن أن سكان المدن في غالبهم الأعم يجهلون كثيراً من مفرداتها، بل يعجزون عن قراءتها، ولعل بعضهم يجتهد في معرفة المعاني التي تلتبس عليه بيد أن غالب إن لم نقل كل من يستمع إلى شعر المسادير وما اصطلح على تسميته بشعر المرابيع (تقسيم النص لأقسام كل منها يتكون من أربعة أبيات تحمل قافية موحده وتدور في فلك المعنى الجمعي للنص بذات نمط الرباعيات المعروفة في القصيدة العربية)؛ يطرب وينتشي ويتعرف على المعاني من خلال السياق. وقد يتمثل الأثر السالب في ركوب الكثيرين للموجه (بحسب ما وجده هذا الفن من جمهور كبير) فولجوا لهذا الضرب من الفنون بلا أدوات تؤهلهم لهذا الولوج فأحدثوا فيه ما أحدثوا من ركاكة واضمحلال وسوء استخدام للمفردة في غير مواضعها.
وختاماً، لعلها لمحات متفرقه تفتح مغاليق لمعرفة بعض ضروب الشعر الشعبي السوداني، وتشير في إضاءات لماهيته ومكنونه بقدر ما يتسع الحيز المتاح.

ذو صلة