مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الطغراء وجه من وجوه الجمال في الخط العربي

عشقتُ - ضمن ما عشقت - الخط العربي منذ الصغر؛ ولهذا حرصت على دراسته وتعلمه عندما بلغت مرحلة الشباب، وحصلت على الدبلوم الخاص به. والخط العربي فن رائع، وتراث جميل يجب الحفاظ عليه في ظل إطار التمسك بالجذور الثقافية في مواجهة العولمة وذلك بالعمل على تدريسه في المدارس والجامعات؛ حتى لا تنشأ أجيال لا تعرف عنه شيئا بسبب الوقوع في أسر التكنولوجيا والاستغناء عن الكتابة اليدوية والاستعاضة عنها (بالكيبوورد)، فقد دعانا السلف لتعلم الكتابة وضرورة إتقانها، وقد وردت أقوال على ألسنتهم في هذا ومنها قولهم (أكرموا أولادكم بالكتابة، فإن الكتابة من أهم الأمور، ومن أعظم السرور، فعليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق). والمتابع للخط العربي يجد فيه متعة بصرية وجمالية لا تدانيها متعة، وكل نوع من أنواعه له مذاق خاص ولا تستطيع أن تفضل نوعاً على آخر؛ فتجد الثلث والديواني والفارسي والنسخ والرقعة والكوفي والأندلسي والطغراء وحتى الخط (الحر) كثمار الفاكهة متنوعة الشكل، مختلفة الطعم وكلها محبوبة من الجميع.
وقد جذبني خطُّ الطغراء لأن أتحدث عنه في هذا الموضوع لأنه يتميز بتركيب فني جميل يحتاج من الخطاط إلى براعة خصوصاً في الكتابة والرسم معا، وبالبحث التاريخي عن هذا الخط وجدت أن أصل كلمة طغراء غير معروف على وجه التحديد، فقد ذكر محمود بن حسين الكشغري في ديوان لغات الترك أنها ليست من أصل تركي وقد تكون مشتقة من كلمة (طغراغ) أو من كلمة طغراي وقيل إن أصل اسم الطغراء كلمة (تترية) نسبة إلى التتار تحتوي على اسم السلطان الحاكم ولقبه، وقد جاء في المعجم الوسيط أن الطغراء هي الطرَّة التي تُكتب في أعلى الكتب والرسائل فوق البسملة تتضمن نعوت الحاكم وألقابه وأصلها (طورغاي) وهي كلمة تترية استعملها الروم والفرس ثم أخذها العرب عنهم.
وذكر (زنكر) الألماني في قاموسه (تركي– عربي فارسي) أن الكلمة قد تكون تحريفا لكلمة (ترغاي) التركية بمعنى الواقف أو المرفوع أو المنتصب وقد تكون تحريفا لكلمة (طغرل) بمعنى صقر. 
ويقول يحيى وهيب الجبوري في كتابه (الخط والكتابة في الحضارة العربية) أن أصل رسوم الطغراء قصة مفادها (أنها شعار قديم لطائر همايوني (مقدس) أسطوري كان يقدسه سلاطين الأوغوز وأن كتابة (طغرل) جاءت بمعنى ظل جناح ذلك الطائر الذي يشبه العنقاء).
وورد في الموسوعة الإسلامية ذكر كلمة (طوغ) أو (طغ) بمعنى شعر الخيل وعند (التتار) هي الشارة من شعر ذيل الحصان، فقد كانت الجيوش ترفع خصلة من ذيل الحصان على عُمد منتصبة في المقدمة، كما أنها تطلق على خصلة الشعر التي تشبك في دبوس مرصع وترشق في عمامة (الخاقان)، وهذه الطوغ التي تثبت على العمائم فوق الرؤوس هي علامة عز وجاه وتدل على المكانة الرفيعة ولعل المقولة العامية (على رأسه ريشة) لها علاقة بالطوغ المثبتة على عمائم السلاطين والخاقانات والأمراء كما يقول الدكتور حسين المعايرجي في معرض حديثه عن فن الطغراء.
 وهناك رواية أخرى عن طريق آخر لها علاقة بنشوء الطغراء عند العثمانيين وهي أنه لما توترت العلاقات بين السلطان المغولي تيمورلنك حفيد جنكيز خان وبين السلطان بايزيد بن مراد الأول العثماني (792 – 805 هـ) أرسل تيمورلنك إنذارا للسلطان بايزيد يهدده بإعلان الحرب ووقع ذلك الإنذار ببصمة كفه على ورق الكتاب ملطخة بالدم، وأدى الأمر إلى معركة أنقرة التي هزم فيها السلطان بايزيد وتم أسره، ويقال إن بصمة تيمورلنك تلك حُدِّثت فيما بعد واتُّخذت لكتابة الطغراوات بالشكل البدائي الذي كتبه العثمانيون. 
وعلى كل حال قد تكون الطغراء كتوقيع سلطاني مكتوبة على الوثائق نظيرا للطوغ كشعار سلطاني مرفوع على العمائم وكلمة طغراء تساوي كلمة (نيشان) الفارسية، أو (التوقيع) العربية وهي التوقيع السلطاني الذي يصعب تقليده ويعبر عنها العثمانيون بأنها توقيع رفيع همايوني أو نيشان شريف عالي الشأن سلطاني وطغرائي صميم مكان خاقاني أو علامة شريفة.
 وهناك من يفرق بين الطرة والطغرى من السابقين، فالطغرى عند القلقشندي صاحب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) هي: كتابة اسم السلطان واسم أبيه وألقابه على شكل مخصوص، ولها (فنان) يقوم بعملها وتحصيلها بالديوان، فإذا كتب المؤلف منشورا أخذ من تلك الطغراوات واحدة وألصقها به، ثم إذا ألصقها كتب بأسفلها في بقية وصلها وجعلها في الوسط، قدر إبهام بياضا ما صورته هذه الجملة (خلد الله سلطانه) وتوضع هذه الطغرى بين الطرة المكتتبة في أعلى المنشور وبين البسملة، وكانت مستعملة في المناشير إلى آخر الدولة الأشرفية، ثم تُركت بعد ذلك ورُفض استعمالها.
وأما الطرَّة فهي ما كانت تكتب سابقا في ناصية الخطابات السلطانية والمراسيم الملكية من العهود والتقاليد، يُذكر فيها اسم السلطان ولقبه واسم المرسل إليه وشيء قليل من مضمون الكتاب، وهي في أعلى المكتوب بقلم أدق من قلم الخطابات في سطور متقاربة، ثم تكتب بعدها الطغرى، ثم بعدها البسملة، ثم يشرع في الخطبة والمقصود، ويترك بياضاً بحسب ذوق المؤلف بين الطغرى والطرة وبينها وبين الخطبة، وكذلك بين أسطر المكتوب، وقد صارت فيما بعد الطرة والطغرى بمعنى واحد.
 ولعل أقدم طغراء عُرفت حتى الآن هي طغراء أورخان غازي (1324 – 1360) وهو ثاني سلاطين الدولة العثمانية وظلت الطغراء تكتب للسلاطين إلى نهاية 1922، فكان لكل سلطان طغراؤه الخاصة التي يوقع بها على الفرمانات والمعاهدات والرسائل والبراءات والأوامر السلطانية، كما كانت ترسم على بوابات القصور ودور الحكومة. واستعملت على الأعلام وعلى النقود والمسكوكات والطوابع والسجلات والسفن الحربية والمدافع التي كانت تصب في ترسانة الدولة وقد استعمل السلاجقة في خراسان وسلاطين المماليك في مصر الطغراء في مثل هذه الأغراض. 
ويقول الدكتور حسن المعايرجي إن أقدم الطغراءات كان لها شكل بدائي تطور مع الزمن ودخلها كثير من التهذيب والتحوير والإتقان حتى بلغت قرب نهاية حكم سلاطين آل عثمان قمة في الإتقان والجمال وتحددت ملامحها النهائية وأصبح ذلك الشكل التجريدي قمة جمالية من جماليات الخط العربي لها فنانون في الخط يتقنون كتابتها فلا يتعلم هذا الفن إلا قاصد ومن أتقنها وأصبح طغرائيًّا فقد أعد نفسه لمنصب خطير في الدولة في ذلك الحين. إذن فوظيفة الطغرائي هي واحدة من المناصب الستة الرفيعة في البلاط العثماني فالفرمانات والبراءات والمعاهدات وغيرها من الأوراق الرسمية الهامة تراجع وتدقق من قبل الدفتردار ورئيس الكتاب ثم تعرض على الصدر الأعظم الذي يقوم بدراستها فإذا أجازها وأشر عليها بكلمة (صح) اختصاراً لكلمة (صحيح) أرسلها إلى الطغرائي أو النشانجي الذي يقوم بتدقيقها فإذا اطمأن لموافقتها للقوانين والمعاهدات السارية يقوم برسم الطغراء بشكلها الذي وافق عليه السلطان عند اعتلائه العرش وفي المكان المحدد لها وهو أعلى النص ولا يكتفي الطغرائي برسم الطغراء السلطانية بل كان يزينها بالأزهار والتذهيب والنقوش لتبدو في أبهى رونق.
والطغرائيون كانوا أعضاء في الديوان السلطاني كالصدر الأعظم والوزراء وقاضي عسكر، ثم أصبح لهم مساعدون يدعون (طغراكش) وكانت وظيفتهم تشبه ما يسمى هذه الأيام بحامل أختام الملك. وبعد أن فقدت هذه الوظيفة أهميتها في نهاية القرن الثامن عشر، احتل الخطاطون مكان الطغرائيين واقتصرت وظيفتهم على رسم الطغراء فقط.
كان للأمراء من أبناء السلاطين طغراوات خاصة بهم، يستعملونها أثناء أعمالهم في إدارة الألوية في داخل الإمبراطورية، وغالبا ما كان يستمر الأمير في استعمال طغرائه بعد تولي السلطنة واعتلاء العرش، أما الوزراء فقد كانت لهم طغراوات خاصة تسمى (بنجه) ويمكن تمييزها عن طغراء السلطان.
وكتابة الاسم في الطغراء وتكييفها وتكوين رسمها دعا إلى التصرف في قواعد الخط المألوفة والخروج عن القاعدة بالرسم فجاء من هذا التطوير في الرسم خط الطغراء الذي يكتب تحت تلك الطغراوات ويحتمل أن يكون خط الطغراء هو الخط الذي نشأ من تزاوج خطيّ الديواني والإجازة كما يقول يحيى وهيب الجبوري في كتابه السابق الإشارة إليه. وتكتب الطغراء بخط الثلث المحور وتشبه شارة أو ختم أو توقيع الملك، كما تكتب أيضاً بخط الديواني. وقد تطورت الطغراوات بمرور الأيام على أيدي خطاطي الدولة العثمانية حتى وصلت إلى شكلها الأخير.
ومن أشهر من كتب الطغراء (مصطفى الراقم) و(إسماعيل حقي طغراكش) و(سامي أفندي) و(حامد إيتاش) و(محمد زهدي) وغيرهم ممن جودوا هذا الخط من خطاطينا المعاصرين مثل (حامد الآمدي) و(سيد إبراهيم) و(محمد سعد حداد) و(خضير البورسعيدي) وآخرين.
 وبعد أن كان هذا الفن قاصرا على كتابة الطغراوات للسلاطين فقط أصبح الخطاطون يكتبون به الآيات القرآنية بنفس الطريقة ووجدوا فيه جمالا ومتعة لهم وهم يمارسون الكتابة والتصميم، كما نجد نحن أيضا نفس المتعة والجمال عندما نرى لوحاتهم الرشيقة البارعة المزدانة بهذا الخط الذي يسر الناظرين. لم أشأ أن أرهقك بشرح مكونات هذا الخط البديع وتفاصيل كتابته تاركا الأمر للنماذج المصاحبة للموضوع تخبرك عن مكنونه وشكله المميز الفريد.
pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة